القاهرة ـ أ ش أ
أطلت قضية الرقابة برأسها مجددا في مصر، فبقدر ما تبقى الرقابة كمفهوم وأنماط متعددة سببا لانزعاج المثقفين في العالم سواء في عالم الجنوب أو في عالم ما بعد الحداثة بالولايات المتحدة.
وفي مصر كانت القضية قد أثارها الكاتب الصحفي محمد شعير عندما تناول وقائع محددة بشأن الرقابة على الكتب في أسبوعية "أخبار الأدب" بينما علق عليها الكاتب والروائي يوسف القعيد.
وردا على ما ذكره أحمد سليم مدير جهاز الرقابة في حوار مع جريدة "التحرير" قال الكاتب الصحفي محمد شعير إن "القضية الآن هي قضية المثقف المصري الذي ظل لأكثر من قرن في موقف المدافع..لم يخض معركة واحدة إلى نهايتها".
ورأى شعير أنه مع الثورة اكتشف المثقف المصري الحقيقة "وانه لايعرف من الحقيقة الا الأشياء المصنوعة" فيما وصف مهنة الرقيب "بالمنقرضة" .
واعتبر شعير أن حوار مدير جهاز الرقابة مع جريدة "التحرير" مليء بالتناقضات الكاشفة والدالة على طريقة تفكير كلاسيكية، مضيفا انه يخفف فعل المصادرة باستخدام لفظ "التحفظ" كما يبرر المنع بالحفاظ على قيم المجتمع وأخلاقياته.
وتابع قائلا في جريدة أخبار الأدب :"الطريقة القديمة في التفكير واستخدام لغة فاسدة لم يعد مفيدا لأن الزمن نفسه تجاوزها ولأن القديم لم ولن يعود مرة أخرى".
وتساءل محمد شعير عن أسباب مصادرة الطبعة الانجليزية لروايات الكاتب البرازيلي باولو كويلو بينما هي موجودة بالعربية في المكتبات وعلى الأرصفة، لافتا إلى أن الكتب المطبوعة والتي تتعرض للمصادرة موجودة على شبكة الانترنت.
وأكد أنه "لا يجوز لأي جهة مصادرة حق المبدع في أن يعبر عن أفكاره ورؤاه كما يشاء"، موضحا عدم إمكانية ممارسة الرقابة عمليا الآن في ظل المجتمع المفتوح وثورة الاتصالات والفضاء الالكتروني وإن كان من حق الجميع "القراءة والمشاهدة والحكم والتأويل".
والظاهرة أثارت اهتمام الكاتب والروائي المصري يوسف القعيد الذي قال في ضوء ما كتبه محمد شعير: "مفاجأة الوسط الثقافي عودة المصادرات من خلال جهاز كان موجودا ويحتل مكانا بقلب القاهرة. إما أننا لا نعرفه أو نعرفه ونحاول تجاهله"، مشيرا لاحتجاز جهاز الرقابة على الكتب الأجنبية ثلاثة كتب وأخذ إقرار على الناشر بعدم توزيعها لحين الانتهاء من فحصها.
وأوضح القعيد في طرحه بجريدة الأهرام أن الكتب الثلاثة هي :"في مدح الحب" تأليف آلان باديو وترجمة غادة الحلواني و"المبرومة" وهي رواية للبناني ربيع جابر و"السيميوطيقيا" للدكتور نصر حامد ابو زيد والدكتورة سيزا قاسم وصدرت طبعته الأولى في مصر منذ سنوات.
وإذ استنكر الكاتب يوسف القعيد ظاهرة استمرار هذا النمط الرقابي بما يخلقه من مناخ "يزدهر فيه الفكر الذي يمكن ان يأخذنا الى العصور الوسطى" تبقى الرقابة بأنماطها المتعددة قضية تشغل المثقفين في كل مكان بهذا العالم .
ففي الهند التي وصلت لكوكب المريخ مؤخرا لتشد من جديد اهتمام العالم تبقى الرقابة قضية حاضرة وذات تجليات متعددة في المنابر الثقافية والشارع وساحات المحاكم كما يعبر عن ذلك كله الكاتب باترا بريجادا في طرح نشره مؤخرا بالانجليزية واستحوذ على اهتمام لافت في الصحافة الثقافية الغربية.
فباترا بريجادا الذي صدر كتاب له بعنوان :"الهندوس : تاريخ بديل" عن الفرع الهندي لدار بنجوين الشهيرة في عالم النشر وجد نفسه مطاردا بسلسلة من الدعاوى القضائية رغم ان هذا الكتاب الصادر عام 2010 فاز بجائزتين داخل الهند.
وبعد هذه المطاردات القضائية واخطرها كان من ناظرة مدرسة متقاعدة تدعى دينا ناث بارتا وتنتمي لتنظيم هندوسي يميني متطرف اضطرت دار بنجوين في شهر فبراير الماضي لوقف نشر وبيع هذا الكتاب و"فرم ماتبقى من نسخ لديها" .
وإذا كان الكاتب الهندي باترا بريجادا قد وصف هذا النوع من الدعاوى القضائية بأنه "سلاح للدمار الثقافي الشامل" فالرقابة كفكرة ومفاهيم وممارسات مازالت حاضرة في الثقافة الغربية.
ذلك يتبدى مثلا في كتابات المؤرخ الثقافي الأمريكي روبرت دارنتون الذي يبدو مهموما "بالتوغل في روح الرقيب والحفر العميق عند جذور ظاهرة الرقابة" والتمييز بين رقابة مؤسسات الدولة ورقابة المجتمع التي قد تكون اشد وطأة واكثر قسوة كما حدث مؤخرا في مدينة دالاس.
فبالتزامن مع أسبوع أقيم مؤخرا كاحتفالية "بالحق في القراءة" قامت مدرسة في مدينة دالاس بولاية تكساس الأمريكية بمنع أعمال لتوني موريسون وجون جرين وكتاب آخرين في تصرف بررته إدارة المدرسة بأنه يأتي استجابة لشكاوى أولياء أمور من السماح لأبنائهم بالاطلاع على "ادب مكشوف".
وكان لما حدث في مدرسة "هاي لاند بارك العليا" في دالاس صداه العابر للمحيط الأطلنطي ليجد حيزا بجريدة الجارديان البريطانية التي راحت تبرز المفارقة بين احتفال سنوي على مدى اسبوع في امريكا "بالحق في القراءة" تشارك فيه المكتبات والمدارس وبين منع قراءة اعمال ابداعية لكتاب كبار في هذه المدرسة !.
من بين الأعمال التي طالها هذا المنع او التحريم داخل فصول المدرسة لأسباب ايروتيكية غالبا رواية "نشيد سليمان" للنوبلية الأمريكية توني موريسون و"كثير من كاثرين" لجون جرين و"يوميات حقيقية لا يأتيها الباطل لهندي نصف الوقت" بقلم شيرمان اليكسي كما طالت الاعتراضات كتاب "الفقير العامل" لدافيد شبلر الفائز بجائزة بوليتزر.
والقائمة تضم قصة "فن التسابق تحت المطر" لجاريث شتاين و"سيرة قلعة الزجاج" لجانيت والز وحتى رواية "سدهارتا" للكاتب الألماني الشهير هرمان هسه وبما قد يثير بالتداعي واقعة حدثت منذ عدة سنوات عندما قررت الجامعة الأمريكية بالقاهرة منع تدريس رواية "الخبز الحافي" للكاتب المغربي الراحل محمد شكري وكذلك رواية "موسم الهجرة الى الشمال" للروائي السوداني الراحل الطيب صالح واثار هذا القرار ضجة كبيرة حينئذ.
وكان المفكر المصري جلال امين قد استدعى هذه الواقعة في سياق تناوله "للضجة التي أثيرت مؤخرا حول قرار بمنع عرض فيلم حلاوة روح" ليقول :في الظروف التي نمر بها اليوم اي في ظل تعتيم مفرط لأعمال فنية حقيقية وتساهل مفرط في تسمية الجرأة ابداعا "قد نكون في حاجة الى رقيب يستطيع التمييز بين العمل المبدع والأخلاقي من ناحية وبين العمل السيء فنيا واخلاقيا ولكن من اين لنا بهذا الرقيب الرائع"؟!.
بين ظهور واختفاء تبقى الرقابة غصة في حلق اي مثقف حقيقي وتهديدا لأي مبدع وأحلام السنين المقبلة!..صدى كلمة "الرقابة" يرتد خفاشا على وجه المبدع الحزين!..كلمة صداها ينوح و تثير قشعريرة الخوف وتطفيء المصابيح المضاءة في روح المبدع في كل مكان وزمان !.


أرسل تعليقك
تعليقك كزائر