تشهد الساحة اللبنانية واحدة من أكثر لحظاتها السياسية حرجاً منذ انتهاء الحرب الأهلية. فبينما كانت الحكومة تتهيأ لمناقشة الورقة الأميركية التي تدعو لحصر السلاح بيد الدولة، جاء بيان كتلة "الوفاء للمقاومة" بمثابة طلقة سياسية، تُعيد تموضع حزب الله وتُربك المشهد الداخلي. موقفٌ رافض للورقة، ومقاطعة وزارية من قِبل "حزب الله" وحركة "أمل"، في لحظةٍ فُهمت على نطاق واسع بأنها انقلاب ناعم على البيان الوزاري.
ويرى مراقبون أن مفارقة هذا المشهد تكمن في أن حزب الله الذي كان شريكاً في الحكومة وصوّت على بيان وزاري يدعو لحصر السلاح بيد الدولة، هو نفسه من يُطيح بهذا التوافق اليوم.
الباحث السياسي مكرم رباح يؤكد أن "ما يقوم به الحزب هو في جوهره تنفيذ مباشر لأوامر إيرانية، وأن نزع سلاحه لا يمكن أن يحدث إلا ضمن تسوية إقليمية شاملة". ويضيف بأن ما جرى ليس سوى تذكير بأن "لبنانية حزب الله" لم تكن يوماً إلا وهماً، وأن السلاح لم يعد مجرد أداة دفاعية بل عبء يختبئ وراءه الحزب باسم الطائفة الشيعية.
أكثر ما لفت في هذه الجولة من التصعيد، كان التزامن الصريح بين موقف حزب الله ومواقف صادرة عن فيلق القدس ووزارة الخارجية الإيرانية، بل وتصريحات مباشرة من مسؤولين إيرانيين تؤكد أن نزع سلاح "المقاومة" "لن يحدث.. انسوا".
هذا التزامن أثار تساؤلات جوهرية: هل ما يجري محاولة إيرانية واضحة لإجهاض أي مسار لبناني سيادي مستقل؟ وهل نشهد فعلاً استباقاً إيرانياً لأي نقاش داخلي لبناني حول مستقبل حزب الله" وسلاحه؟
لا يتردد الكاتب و الباحث السياسي داوود رمال خلال حديثه الى برنامج "رادار" على سكاي نيوز عربية في الجزم بأن السلاح لم يعد فقط مسألة لبنانية، بل هو "جزء من منظومة إيرانية تُعامل منشآت حزب الله كأنها أصول إيرانية".
لذلك، يعتبر أن أي تسوية حول مستقبل السلاح يجب أن تتم بين إيران والولايات المتحدة، وليس داخل مجلس الوزراء اللبناني.
انقلاب أم ارتداد عن تعهدات؟
في العمق، يتمحور الخلاف حول تفسير البيان الوزاري لحكومة نواف سلام، الذي أقرّ بـ"حصرية السلاح بيد الدولة". ما حصل ـ بحسب رباح ـ هو انقلاب على هذا التوافق، إذ كان من المفترض أن يكون الحوار داخل الحكومة، وليس في الشارع أو عبر تعطيل المؤسسات.
ويرى أن تصرف "الثنائي الشيعي"، وعلى رأسه حزب الله، هو "تشبيح سياسي موصوف"، ورفضٌ حتى لمجرد النقاش في موضوع السلاح.
في المقابل، يرى مدير مركز الجيل الجديد للإعلام محمد غروي أن الحديث عن "انقلاب سياسي" مغالاة متعمدة، معتبرًا أن "ما يجري هو تصدٍ لإملاءات أميركية وإسرائيلية، تسعى لنزع سلاح المقاومة وتحويل لبنان إلى ضاحية منزوعة السلاح كالضفة الغربية". وهو يحمّل واشنطن مسؤولية العرقلة، مشيرًا إلى أن الجانب الأميركي وعد بالمساعدات في حال انتخاب رئيس وحكومة، "لكن لم يتحقق شيء".
واحدة من أبرز حجج أنصار "حزب الله" هي أن أي نقاش حول نزع السلاح يُؤجّج الفتنة الطائفية. غروي يؤكد أن غالبية اللبنانيين يرفضون المساس بالسلاح لأنه "يؤدي إلى فتنة داخلية"، ويضيف بأن القوى التي تدفع نحو النزع لا تسعى لمصلحة لبنان بل "تخدم أجندات خارجية".
لكن مكرم رباح يرد على هذه السردية، معتبراً أنها "ابتزاز سياسي مكشوف"، ويشدد على أن "أول المتضررين من استمرار هذه الثنائية المسلحة هم الشيعة أنفسهم". ويضيف بأن "الحرب الأخيرة كشفت زيف الادعاءات، وأن مقاربة حزب الله لمفهوم المقاومة سقطت أخلاقياً وميدانياً".
يرى رباح أن اللحظة السياسية اليوم هي اختبار حقيقي للدولة اللبنانية: هل يمكن لها أن تفرض سلطتها وسيادتها؟ أم أنها ستبقى رهينة لمعادلة "السلاح مقابل الاستقرار"، التي أثبتت فشلها؟ ويضيف بأن "الخطاب الذي يقول إن النقاش حول السلاح يؤدي إلى حرب أهلية هو خطاب ساقط سياسياً"، لأن "السكوت عن السلاح هو ما يُبقي الحرب الأهلية كامنة تحت السطح".
من يقرر مستقبل لبنان؟
السؤال المركزي الذي يطرحه هذا المشهد هو: من يقرر مستقبل لبنان؟ هل هو مجلس الوزراء المنتخب، أو البرلمان، أو رئيس الجمهورية؟ أم أن الكلمة الأخيرة تبقى بيد حزب يتلقى توجيهاته من الخارج؟
في هذا السياق، يلفت داوود رمال إلى أن "حزب الله ليس في وارد تسليم قراره السيادي للدولة، ولا حتى للشعب اللبناني، بل ما زال يعمل كوكيل إقليمي"، وأنه "لم يدرك بعد أن الزمن تغيّر، وأنه لا يمكن أن يستمر في فرض رؤيته على الجميع".
لبنان اليوم على مفترق طرق. بين ورقة أميركية تدعو إلى تثبيت السيادة، وواقع سياسي يكرس ازدواجية السلاح والقرار بين حكومة تريد استعادة القرار الوطني، وحزب يرفض مجرد النقاش في المسألة. وبين شعب بات سجين صراعات الخارج، ومؤسسات مشلولة بانقسامات الداخل.
ما جرى في مجلس الوزراء اللبناني، والانسحاب الجماعي للثنائي الشيعي، ليس خلافاً سياسياً عابراً، بل تجسيد لانقسام وطني خطير. فالسؤال الذي يُطرح اليوم: هل تملك الدولة اللبنانية الجرأة على خوض معركة السيادة حتى نهايتها؟ أم ستُطوى صفحة الحوار مرة أخرى، بانتظار جولة جديدة من "التفاهمات" على حساب الدولة؟.
قد يهمك أيضــــــــــــــا
غارات إسرائيلية عنيفة على مواقع لحزب الله في جنوب لبنان
الحكم في لبنان إتخذ قرار سحْبَ سلاح حزب الله قبل نهاية العام ويكلّف الجيش وضع خطة قبل نهاية الشهر الجاري
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر