المفتش والمسيح
دونالد ترامب يأمر بتحرير لوس أنجلوس من غزو المهاجرين على خلفية احتجاجات واسعة اندلعت بسبب عمليات ترحيل إسرائيل تدعو إلى سحب قوات الأمم المتحدة اليونيفيل مع الدولة اللبنانية جيش الاحتلال الإسرائيلي يُهاجم سفينة الحرية المحملة بمساعدات إنسانية أثناء اقترابها من شواطئ قطاع غزة المنتخب البرتغالي يُتوج بلقب دوري الأمم الأوروبية لكرة القدم للمرة الثانية في تاريخه نادي بريشيا الإيطالي لكرة القدم يتجه لإعلان إفلاسه بعد نحو 114 سنة على تأسيسه نفاد تذاكر المباراة الودية بين المغرب والبنين التي ستجري مساء الإثنين بفاس واتساب يختبر أداة جديدة تتيح للمستخدمين إنشاء روبوتات دردشة مقتل امرأة برصاص الشرطة الألمانية بعد طعنها شخصين في ميونخ وزارة الصحة الفلسطينية تعلن توقف 23 مستشفى عن العمل في غزة بسبب اعتداءات الاحتلال وزارة الصحة الفلسطينية تعلن ارتفاع عدد الشهداء منذ فجر اليوم الأحد إلى 21 في غارات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة
أخر الأخبار

المفتش والمسيح

المغرب اليوم -

المفتش والمسيح

ادريس الكنبوري

في رائعته الخالدة "الإخوة كارامازوف" يحكي دوستويفسكي قصة طريفة، سنلخصها سريعا: هبط المسيح ذات يوم في القرن السادس عشر في إشبيلية، حيث كانت محاكم التفتيش تقتل يوميا المئات من البشر، تحت قيادة"المفتش الكبير". وبينما كان يتفقد"خرافه" أمر المفتش الكبير باعتقاله. وفي المساء ذهب إلى زيارته في زنزانته، وقال له: "لقد كنت تقول بأنك ستجعل الناس أحرارا، وها أنت قد رأيتهم كذلك، ولكن هذا كلفنا كثيرا، إلا أننا نجحنا أخيرا في عملنا الذي أنجزناه باسمك، والآن كن واثقا بأن الناس لم يشعروا بأنهم أحرار كما هم اليوم، ومع ذلك، فإنهم يأتون ويضعون حريتهم تحت أقدامنا!".

تصلح هذه القصة اليوم في تفسير الوضع الذي يعيشه المسلمون في الوقت الحالي باسم الدين. فالمفتش الكبير ينفذ جريمته باسم المسيح، بينما هو يعتقله في زنزانة، ويعتبر أن قتل الناس عملية تطهير لهم من المعاصي، لذلك يرى أنه يقوم بتحريرهم منها. أما أنهم يضعون حريتهم تحت قدمي المفتش فلأنهم تطبعوا على العبودية، فلم يعودوا يفهمون العبودية سوى بوصفها خضوعا لسلطان ديني. لكن المفارقة الرئيسية في الحكاية هي أن المفتش يعتقد أنه يحرر البشر، في الوقت الذي يجرد المسيح من حريته، ويؤمن بأنه لم يفعل سوى تنفيذ تعاليمه.

تشبه صورة المفتش الكبير الجماعات المتطرفة التي أصبحت اليوم تتوسل بالسلاح والقتل من أجل انتزاع صفة"الناطق"باسم الدين، والممثل له، زارعة في طريقها الرعب والعنف باسمه. فهي تعتقد بأنها تنطلق في أعمالها من الإسلام، بينما هي تعتقل الدين في زنزانة ضيقة لأنها تحاصره في تفسيرات متشددة، لا ترى شيئا آخر خارجها سواها. وتُعمل آلة القتل في المسلمين ظانة أنها تنفذ الأحكام الشرعية من أجل تحرير البشر من المعاصي، بينما هي تقوم بعمل وحشي مناف للإسلام الذي جاء رحمة للعالمين.

ولأن لكل شيء أصلا، لا بد من التساؤل عن أصول هذا التحول نحو التطرف والعنف داخل الإسلام بالشكل الذي نراه اليوم. لقد شغل عدد من المستشرقين أنفسهم كثيرا بالبحث عن جذور العنف والتشدد داخل الدين نفسه، وذلك من أجل إدانته في مقابل المسيحية التي لخصوها بجرة قلم واحدة في كونها ديانة التسامح، رغم أن هذا ليس صحيحا، وإلا لما كان هناك عصر تنوير في أوروبا وانقلاب على الكنيسة، ولما كتب لوك رسالته الشهيرة في التسامح، التي كانت إنجيل الأنوار. فتراث التنوير في حد ذاته يدين المسيحية كما كانت مطبقة.

لكن في الجانب المسلم، اكتفى العلماء بأمرين: الرد على "مطاعن" المستشرقين بكثير من العاطفة المجردة عن العلم، عدا محاولات قليلة، للإنصاف، والتنقيب في"فقه الاستبداد" للرد على السلطة. ولكون السلطة هي العقدة الرئيسية التي واجهها المسلمون في تاريخهم، خصوصا منذ سقوط الخلافة، غفلوا عن البحث في"فقه العنف" الناتج عن تفسيرات و"تبريرات" النص الدين، متناسين أنه إذا كان هناك فقه استبداد في الأعلى، فلأن ذلك الفقه يتحرك بحرية في الأسفل، وسط المجتمع، في التعليم النظامي وغير النظامي، وفي التراث الفقهي والديني الذي يتم تناقله بين الأجيال، كابرا عن كابر.

ولذلك ليس مفيدا اليوم ـ بعد خراب مالطا كما يقال ـ الاكتفاء بالتذكير بأن الإسلام دين تسامح واعتدال، طالما أن ذلك التراث لا يزال يتحرك بحرية ويمكن لأي جماعة اقتناصه وتبنيه، باسم الدين. لقد كان رواد الإصلاح الإسلامي في بداية القرن الماضي واعين بهذه الحقيقة، ولذلك ركز معظمهم على التربية والتعليم، من خلال إصلاح المناهج في الأزهر والقرويين والزيتونة، ولكن هؤلاء حوربوا من طرف العلماء التقليديين الذين أرادوا الحفاظ على القديم لأنه "من الدين". أراد هؤلاء أن ينجزوا ـ تقريبا ـ ما أنجزه مفكرو التنوير في أوروبا عندما وضعوا "الموسوعة" في عصر ديدرو ودالامبير، للقطع مع مناهج ومعارف متهالكة يمجها العقل وروح العصر.

بيد أن هذه الرغبة لم تمت في صدور العلماء الذين كانوا يرون في الأفق رياحا خريفية قادمة. وقد حاول البعض التصدي لما شاب التراث الديني والفقهي من قضايا كانوا يرون أن لا علاقة لها بالإنسان والحضارة، وبالضرورة لا علاقة لها بروح الإسلام، من أجل تهذيب هذا التراث وتطهيره من الغلو، لكنهم جوبهوا بحرب شرسة شنت عليهم من مختلف الجهات. والمفارقة ـ التي يمكن أن نراها اليوم بعين أخرى ـ أن واحدة من هذه الجهات كانت هي السلطة في العالم العربي، التي تبحث اليوم عن مخرج من هذه الدائرة الجهنمية، وصل مداها إلى انتقاد المدونة الفقهية والعقدية التي تقوم عليها الدولة نفسها في بلد عربي كبير. وعندما أعلن محمد الغزالي في مصر موقفه الصريح من أجزاء من هذا التراث قامت ضده موجة تشهير واتهم بالكفر والزندقة، ومات واقفا وهو يتكلم نتيجة الحسرة.

لهذا كله، يجب أن تكون هناك جرأة صريحة للقول بأن الذين كانوا يتصدون للتجديد باسم الحفاظ على تراث الأجداد دون تمييز، هم الذين مهدوا السبيل للتطرف الديني ولظهور السلفية الجهادية اليوم، من غير أن يدركوا بأنهم يؤسسون لمحاكم التفتيش باسم ذلك التراث، كما اعتقل المفتش الكبير المسيح باسم المسيح نفسه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المفتش والمسيح المفتش والمسيح



GMT 21:27 2025 السبت ,07 حزيران / يونيو

دوره الأخير

GMT 21:24 2025 السبت ,07 حزيران / يونيو

غربال التاريخ المتحرك

GMT 21:22 2025 السبت ,07 حزيران / يونيو

إيران... انعطافات حادة يميناً ويساراً

GMT 21:21 2025 السبت ,07 حزيران / يونيو

عوامل استقرار الشرق الأوسط واضطرابه

GMT 21:20 2025 السبت ,07 حزيران / يونيو

عن ليبيا والحاجة لطوق النجاة

GMT 21:19 2025 السبت ,07 حزيران / يونيو

لا يفوتك في هذا النص

GMT 21:17 2025 السبت ,07 حزيران / يونيو

أوكرانيا وغزة

GMT 21:16 2025 السبت ,07 حزيران / يونيو

إيران ــ أميركا: دبلوماسية قلم الحبر

أمينة خليل تتألق بفستان زفاف ملكي يعكس أنوثة ناعمة وأناقة خالدة

القاهرة - سعيد الفرماوي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib