كان مهمّاً قيام رئيس مجلس الوزراء في لبنان نوّاف سلام بزيارة لدمشق وعقد لقاء مع الرئيس السوري أحمد الشرع. تنبع أهمّية الزيارة من حاجة لبنان إلى فهم ما يدور في سوريا وحاجة سوريا إلى الاطمئنان إلى ما يدور في لبنان. ليس لبنان في حاجة إلى اعتذار سوري، بل إلى تغيير جذري في نظرة دمشق إلى بيروت بعد كلّ ما ارتكبه النظام العلويّ في حقّه طوال ما يزيد على نصف قرن. أمّا سوريا فهي بحاجة إلى قبول لبناني بمسؤوليّة ما ارتكبه “الحزب “في حقّ الشعب السوري طوال 12 عاماً، في أقلّ تقدير.
الأكيد أنّ لبنان ليس مسؤولاً مباشرة عمّا فعله مقاتلو “الحزب” في سوريا منذ تورّطهم المباشر في دعم النظام ابتداء من عام2012 إلى اليوم الذي فرّ فيه بشّار إلى موسكو في الثامن من كانون الأوّل 2024. ليست المسؤولية مسؤولية لبنانية بمقدار ما أنّ ثمّة حاجة إلى إقرار لبناني بجريمة ارتكبها لبنانيون في حقّ سوريا والشعب السوري في وقت تبدو إيران مصمّمة على العودة بطريقة أو بأخرى إلى سوريا عن طريق لبنان.
ثمّة حاجة إلى ضمان لبناني، على أعلى المستويات، لعدم تكرار ما حدث بين 2012 و2024، بما في ذلك سعي إيران عبر “الحزب” إلى تغيير الطبيعة الديمغرافيّة لسوريا. في النهاية، تقع المسؤولية المباشرة عن استمرار الحرب الداخلية السوريّة كلّ تلك السنوات على “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. أمرت إيران، عبر “المرشد الأعلى” علي خامنئي، “الحزب” بالتورّط المباشر في الحرب السوريّة رافضة ترك خيار آخر له.
آن أوان تنقية العلاقات اللبنانية – السورية من منطلق أنّ المعطيات التي تحكّمت بالسنوات الخمسين الماضية تبدّلت كلّيّاً
مسؤولية السيطرة على الحدود
يتحمّل لبنان مسؤوليّةً ما عن الأحداث السوريّة، خصوصاً في عهد ميشال عون وجبران باسيل اللذين لم ينبسا طوال ستّ سنوات ببنت شفة في ما يخصّ المأساة السوريّة. يفرض هذا في الوقت الحاضر على لبنان التأكيد بالملموس أنّ العلاقة بين إيران والدولة اللبنانية تغيّرت جذريّاً، مع وصول جوزف عون إلى قصر بعبدا. على لبنان تحمّل كلّ المسؤوليّات المترتّبة عليه لجهة السيطرة من جانبه على الحدود بين البلدين وعدم ترك أيّ ثغرات تتسلّل منها إيران إلى الداخل السوري. بكلام أوضح، على لبنان إثبات أنّ كلّ شيء فيه تغيّر منذ انتهى “عهد الحزب” (عهد ميشال عون – جبران باسيل)، وأنّ ممارسات هذا العهد لن تتكرّر.
إذا كان على لبنان إظهار أنّه تغيّر، تترتّب على سوريا مسؤولية مضاعفة في إثبات أنّها تغيّرت أكثر ممّا تغيّر الجار الأصغر. لم تكن الحرب اللبنانية التي بدأت في 13 نيسان 1975 سوى امتداد طبيعي لقيام النظام العلويّ في سوريا، الذي عمل على تثبيت نفسه عن طريق إغراق لبنان بالسلاح، بغية السيطرة عليه من جهة، في ظلّ تفاهمات مع إسرائيل من جهة أخرى.
سوريا
بدأت مأساة لبنان بتوقيعه اتّفاق القاهرة مع منظّمة التحرير الفلسطينية، خريف عام 1969. إنّه اتّفاق كان يعني بين ما يعنيه سقوط السيادة اللبنانية. لم يكن ممكناً أن يوقّع لبنان مثل هذا الاتّفاق لولا تدفّق السلاح على المنظّمات الفلسطينية بتسهيلات من حافظ الأسد الذي كان وزيراً للدفاع وكان يهيّئ نفسه لتولّي السلطة والاستفراد بها. حدث ذلك في 16 تشرين الثاني 1970. انقلب الأسد الأب على رفاقه البعثيين، خصوصاً على غريمه الضابط العلويّ الآخر صلاح جديد الذي توفّي في زنزانته صيف عام 1993، أي بعد بقائه سجيناً طوال 23 عاماً رفض طوالها الانصياع للسيّد الجديد لسوريا.
تنبع أهمّية الزيارة من حاجة لبنان إلى فهم ما يدور في سوريا وحاجة سوريا إلى الاطمئنان إلى ما يدور في لبنان
إثبات تغيير الذهنية
كيف التعامل بين سوريا الجديدة التي نفضت عنها الحكم العلويّ من جهة، ولبنان المختلف الخارج من الهيمنة الإيرانية الذي يعيد بناء نفسه من جهة أخرى؟ ليس على أحمد الشرع إثبات أنّه قطع علاقته بـ”أبي محمّد الجولاني” فحسب، بل سيكون عليه تأكيد أنّ الذهنية التي تحكّمت بحافظ الأسد وبشّار الأسد تغيّرت كلّيّاً، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بلبنان والنظرة إليه بعيداً عن أيّ فوقيّة.
لن يكون تغيير في سوريا من دون تغيير في النظرة إلى لبنان، ولن يكون تغيير في لبنان في حال بقي كما كانت عليه الحال في السنوات الواقعة بين2012 و 2024…وفي السنوات التي سبقتها أيضاً.
كانت سوريا جسراً إيرانيّاً لنقل المال والسلاح إلى لبنان، وكان لبنان مصدر تجنيد لمقاتلين شيعة من “الحزب “لا هدف لهم سوى خدمة المشروع الإيراني في المنطقة من أجل حماية النظام العلويّ السوري.
لتنقية العلاقات
آن أوان تنقية العلاقات اللبنانية – السورية من منطلق أنّ المعطيات التي تحكّمت بالسنوات الخمسين الماضية تبدّلت كلّيّاً بدءاً باستحالة عودة النظام العلوي إلى حكم سوريا واستحالة استمرار إيران في حكم لبنان.
صدر عن نوّاف سلام على هامش زيارته القصيرة لدمشق كلام مهمّ. قال: “هذه الزيارة من شأنها فتح صفحة جديدة في مسار العلاقات بين البلدين على قاعدة الاحترام المتبادل واستعادة الثقة وحسن الجوار والحفاظ على سيادة بلدَينا وعدم تدخّل بعضنا في الشؤون الداخلية للبعض الآخر، لأنّ قرار سوريا للسوريّين وقرار لبنان للّبنانيّين”.
ستبقى النظرة إلى لبنان امتحاناً يوميّاً للنظام الجديد في سوريا، وستبقى قدرة لبنان على ضبط حدوده مع سوريا امتحاناً لمدى عمق التغيير الناجم عن خروج إيران، إلى غير رجعة، من البلد.