«عشرة لصفر»

«عشرة لصفر»

المغرب اليوم -

«عشرة لصفر»

جمال بودومة

في التاسعة ليلا كنّا نجري مثل جحوش صغيرة في الملعب البلدي، بسراويلنا وأحذيتنا و»صندالاتنا» المهترئة. ورغم أن عددنا كان يتجاوز الثلاثين، فقد أقنعونا بأننا فريق كرة قدم يتدرب على المشاركة في «بطولة المدارس»، التي كانت ستبدأ بعد يومين، دون أن يتركوا لنا فرصة تهييء ملابس رياضية تليق بالمقام. ساقنا المعلم بثياب الدرس ومحفظاتنا الثقيلة، من الفصل إلى الملعب!
كانت الأكاديمية الجهوية للتعليم تنظم دوريا يلعب فيه التلاميذ من مختلف الفصول والأعمار، ضمن فرق تمثل مدارسهم. بطولة حقيقية بكأس وجمهور وإقصائيات. كان عمري عشر سنوات، ومعي ابن جيراننا محمد، الذي يكبرني بعام، لكنه يدرس معي في الشهادة الابتدائية، ولا أتذكر كيف وقع الاختيار علينا كي نشارك في هذه البطولة، رغم أنني شخصيا كنت سيئا جدا في لعبة كرة القدم، من النوع الذي تتركه وجها لوجه مع المرمى، بدون حارس، وبدل أن يسجل الهدف تهرب منه الكرة في اتجاه «الكورنير»!
كنّا مبهورين برؤية ملعب حقيقي. وضعنا محفظاتنا على كرسي خشبي، في المكان الذي يجلس فيه طاقم الاحتياط، وشرعنا نجري بكامل ثيابنا إلى أن بللنا العرق. كنا ندور حول الملعب، فيما المعلم يقف في المكان الذي تركنا فيه أغراضنا ويعطينا التعليمات، أحيانا يصفق وتارة يحرك أصابعه بحماس وهو يتلفظ بكلمات بالفرنسية. كان يتخيل نفسه «بيكنباور»!
بعد ساعة من الركض والحركات الترويضية، شعرنا أننا أصبحنا محترفين، جاهزين للفوز بالبطولة. غسلنا وجوهنا في مستودع الملابس، ثم انصرفنا بنفس اللباس، الذي جئنا به إلى المدرسة وركضنا به في الملعب وصار مبللا عن آخره بالعرق.
في العاشرة والنصف ليلا، عندما اقتربنا من البيت، وجدنا الحي مقلوبا رأسا على عقب: الكل يفتش عن الطفلين اللذين غادرا بيتيهما في الثانية بعد الظهر، ولم يظهر لهما أثر، رغم أن المدرسة أقفلت أبوابها منذ السادسة!
لم يكن هناك «بورتابل» ولا «إنترنيت» كي يعرف أهلنا أين نحن. كنّا نشبه أطفال شوارع، رغم أن لنا آباء وأمهات وإخوة وجيرانا. ننام ونصحو ونذهب إلى المدرسة دون أن يسأل عنا أحد. عادت السكينة إلى الحي بعد أن تعرضنا للتوبيخ، دون أن يفكر أحد في الاحتجاج على المعلم، الذي لم يتورع عن اقتياد قطيع من الأطفال إلى ملعب كرة القدم ليلا، دون إخطار ذويهم. العائلات لم تكن تتجرأ على نقد المدرسة في تلك السنوات القاسية، لأنها «مدرسة المخزن»… «واللي گالها المخزن هي اللي تكون»!
في صباح الأحد، استيقظنا باكرا واتجهنا إلى الملعب البلدي، هذه المرة بعد أن أخبرنا عائلاتنا وارتدينا ملابس رياضية تليق بمباراة الافتتاح، التي كانت تجمع فريقنا مدرسة «بئر أنزران» وفريق مدرسة «الأطلس». جاء معنا بعض الأتراب من الحي والمدرسة، وغص الملعب بجمهور من الأطفال، جاؤوا خصيصا لتشجيع مدارسهم.
قبل أن يصفر الحكم إيذانا ببدء اللقاء، دخل شخص ببذلة كاكية و»كرافات قهوية» وشرع يتحدث في مكبر صوتي «مخرشش». كان كلامه يشبه ما يردده بائع «جافيل» في الأحياء الشعبية، الفرق الوحيد أن الكل ينصت إليه باهتمام. عرفت أنه ممثل أكاديمية التربية الوطنية، استغل المناسبة كي يلقي خطابا خشبيا أمام الجمهور. رحب بالجميع، وشكر المجلس البلدي ومدراء المدارس، قبل أن يتمنى حظا سعيدا لفريق مدرستنا، «الذي يدافع عن لقبه»، كما تمنى الشيء ذاته لفريق مدرسة «الأطلس»، الذي يلعب للمرة الأولى في هذا الدوري، لأن المؤسسة كانت قد فتحت أبوابها تلك السنة، على تخوم المدينة، لتغطية النقص الحاصل في التمدرس داخل هذه الأحياء الهامشية.
غمرتنا السعادة وتملكنا الفخر ونحن نسمع تصفيقات الجمهور، رغم أننا استغربنا كيف لم يخبرنا «بيكنباور» بأننا «حاملو اللقب» كي يرفع معنوياتنا، وذلك أضعف الإيمان…
بدأت المباراة، كان مستوانا سيّئا جدا، ما إن يمسك أحدنا الكرة حتى تفلت منه أو يعطيها للفريق الآخر دون أن يرف له جفن، فيما أظهر تلاميذ «الأطلس» مهارات مذهلة، كانوا يراوغون ويتمرغون على الأرض ببراعة أفزعتنا، ضربات مقص وتمريرات محكمة أصابتنا بالارتباك وجعلت الأهداف تتقاطر على حارسنا المسكين: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة… انهزمنا بعشرة أهداف لصفر، وعدنا إلى الحي نجر أذيال الخيبة!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«عشرة لصفر» «عشرة لصفر»



GMT 12:24 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

«هزيمة» أم «تراجع»؟

GMT 12:23 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

الأردن في مواجهة إوهام إيران والإخوان

GMT 12:22 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

رجل لا يتعب من القتل

GMT 12:21 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

عصر الترمبية

GMT 12:18 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

السعودية وهندسة تبريد المنطقة

GMT 12:17 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

قراءة لمسار التفاوض بين واشنطن وطهران

GMT 12:16 2025 الإثنين ,21 إبريل / نيسان

على رُقعة الشطرنج

تنسيقات مثالية للنهار والمساء لياسمين صبري على الشاطيء

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 20:58 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:17 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"القوس" في كانون الأول 2019

GMT 08:42 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

لبعوض يقض مضاجع ساكنة مدن مغربية

GMT 22:51 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية مولدافيا

GMT 15:54 2018 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

الشلقاني تفوز بعضوية المكتب التنفيذي لاتحاد البحر المتوسط

GMT 08:48 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

إعصار "مايكل" يسبب خسائر كبيرة في قاعدة "تيندال" الجوية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib