انزياحات

انزياحات؟

المغرب اليوم -

انزياحات

حسن البطل
بقلم : حسن البطل

نترك انزياحات في مسار الأفلاك (خسوف وكسوف مثلاً) لعلماء الفلك.. كما لعامة الناس وأساطيرهم القديمة الخرافية!

كوكب الأرض ذاته مليء بشتّى أنواع الانزياحات، من "زحط" القارات، إلى تقلب التحالفات السياسية (لا عداوات دائمة أو صداقات دائمة بل مصالح) إلى انزياح الحضارات البشرية. ربما جزيرة قبرص هذه، المسمّاة جزيرة أفروديت، تصلح بوصلة للانزياحات السياسية والحضارية. أنطون سعادة، وحزبه السوري القومي الاجتماعي، تحدث عن الجزيرة بوصفها "نجمة" الهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق). اختفت النجمة من عقيدة سعادة إلى عقيدة "داعش" الوحشية عن الدولة الإسلامية في العراق والشام، بل وكادت العراق دولةً وسورية دولةً تختفيان من تقسيمات دولية ما بعد الحرب العالمية الأولى، بفعل حروب أهلية وإقليمية ودولية.

صديقنا وزميلنا التونسي، محمد علي اليوسفي، كتب في إقامته القبرصية معنا: كأن جزيرة أفروديت تمدّ يدها لمصافحة البرّ الشامي (السوري تحديداً). الواقع أنها تمدّ اصبع سبابتها نحو سورية، كما يفعل الأطفال الصغار في الإشارة إلى الأشياء والجهات!

خلال إقامتنا القبرصية مدة 13 سنة متوالية بعد الخروج البيروتي، كنّا نتردد على حانات نيقوسيا، ومنها حانة تسمّى (إيجيون) ملأى بالكتب القديمة عن حضارة بلاد الإغريق القديمة، أي بحر إيجة كجزء من البحر الأبيض المتوسط من اليونان إلى تركيا، الذي دعاه العرب "بحر الروم".

في دردشة مع صاحب الحانة المثقف أوضح لنا أن عديد سكان اليونان وقبرص لا يتجاوزون الملايين العشرة، بينما الشاطئ الشرقي والجنوبي للمتوسط هناك عشرات الملايين في هذا العالم العربي. إنه يتحسّر على تفكّك العالم العربي.

هذه المعلومة المعروفة، قادت إلى معلومة إغريقية ـ عربية حضارية. صاحب الحانة سألنا: لماذا امتدت حضارة الإغريق إلى الشرق والجنوب العربي، لا إلى الشمال الأوروبي؟ وأجاب: كانت بقية أوروبا بلاداً ذات شعوب وقبائل متخلفة، بينما ورث العالم العربي جانباً من حضارة ثقافة الإغريق، إلى جوانب إدارية من حضارة بلاد فارس القديمة.

كان هناك، قبل تأسيس الاتحاد الأوروبي وبعده بقليل دعاة للأورو ـ متوسطية. بدلاً من حلم الوحدة الإغريقية (أوناسيس) بقيت الجزيرة المتوسطية القبرصية مستقلة، ومع انضمام اليونان للاتحاد الأوروبي "تأوربت" جزيرة أفروديت، ومعه انزياح "اصبع" الجزيرة جنوباً من الإشارة إلى البرّ السوري الشرقي إلى علاقة متنامية مع إسرائيل لأسباب اقتصادية (حاجتها إلى توريدات الغاز) وجزئياً لأسباب أمنية (اضطراب بلاد الساحل الشرقي والجنوبي العربي).

علاقة (م.ت.ف) مع قبرص لم تبدأ بعد خروج القوات الفلسطينية من بيروت، حيث صارت الجزيرة نقطة ارتكاز إعلامية ولوجستية بين مقر المنظمة في تونس، والحالة الفلسطينية الصعبة في لبنان، ولدعم الشعب والمخيمات الفلسطينية فيه، حيث عاد إلى لبنان مقاتلون

فلسطينيون بعد مجزرة صبرا وشاتيلا عن طريق الجزيرة، ثم الإبحار إلى لبنان، وعرفات نفسه فعل هذا بالانتقال إلى طرابلس ـ لبنان، لخوض الحرب ضد سورية وفصائلها المنشقة عن المنظمة.

بعد الغزو التركي لشمال الجزيرة وتقسيمها، دعمت المنظمة المطران مكاريوس وحزب "آكيل" الشيوعي، وطبعت منشوراته في مطابعها البيروتية.

القبارصة اليونان، يرون دور بريطانيا في "النكبة" القبرصية وتقسيم الجزيرة، كما يرى هذا الفلسطينيون في فلسطين، وردّ القبارصة اليونان هذا الجميل بترحيب وتسهيل عمل ووجود الفلسطينيين الإعلامي والسياسي بعد بيروت 1982.

في الأقل، عُقدت ست أو ثماني زيجات بين الرجال الفلسطينيين ونساء قبرصيات، معظمهن لاجئات من القسم الذي احتلته تركيا. لاحقاً، ومن بين 40 ألف لاجئ فلسطيني كانوا في العراق، استقبلت قبرص زهاء 5 آلاف منهم، عدا من لجأ إليها من فلسطينيي سورية.

إسرائيل تخوّفت من هذا، وبنتيجة اتفاق بين السلطة الفلسطينية وحكومة قبرص، تم منحهم جوازات سفر فلسطينية سارية خارج فلسطين، ولم يتبق منهم سوى 300 واحد، وهاجر البقية إلى دول أوروبا، التي استقبلتهم ووطّنتهم وفق وثائق سفر فلسطينية صادرة عن بلاد اللجوء العربية، بعدما لاحظت أن لا دور فلسطينياً في "الإرهاب الإسلامي" الذي تعاني منه أوروبا.

خلال وجودنا في قبرص 1982 ـ 1994، وُلد هناك أطفال صاروا رجالاً، ويفكر بعضهم بالاستفادة من مكان الولادة للحصول على جواز سفر قبرصي، يمكّنهم من التجوّل في دول الاتحاد، لأن الجزيرة من دول فيزا "شنجن".

إلى انزياحات في مسار الأفلاك، وانزياحات سياسية واقتصادية، هناك انزياحات حضارية منذ بدأت هجرة الإنسان من أفريقيا، وأعطاها العنصريون وصف "صراع الحضارات" مثلاً، أو صراع الديانات، وخاصة "الإرهاب الإسلاموي"!

لعلّ جزيرة قبرص نموذج عن انزياحات سياسية واقتصادية، وربما حضارية من حنين إغريقي إلى حضارة إغريقية ـ عربية، إلى واقع حضاري أوروبي.

هناك نهضة حضارية متجدّدة في بلاد الحضارات القديمة (الصين، الهند، إيران) بعد قرون من الفوضى والحروب، وربما لن يتأخّر العرب عن تجديد حضارتهم، ولكن بعد مخاض عسير من عشرات السنوات.

أثيوبيا العريقة تنهض من جديد، وحتى رواندا غير العريقة التي عانت من حرب أهلية قبلية ضروس بين الهوتو والتوتسي صارت نموذجاً أفريقياً للتحديث الناجح والازدهار المتسارع!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

انزياحات انزياحات



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

تنسيقات مثالية للنهار والمساء لياسمين صبري على الشاطيء

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 20:58 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 16:17 2019 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

أبرز الأحداث اليوميّة لمواليد برج"القوس" في كانون الأول 2019

GMT 08:42 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

لبعوض يقض مضاجع ساكنة مدن مغربية

GMT 22:51 2019 الإثنين ,16 أيلول / سبتمبر

الملك محمد السادس يهنئ رئيس جمهورية مولدافيا

GMT 15:54 2018 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

الشلقاني تفوز بعضوية المكتب التنفيذي لاتحاد البحر المتوسط

GMT 08:48 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

إعصار "مايكل" يسبب خسائر كبيرة في قاعدة "تيندال" الجوية

GMT 14:41 2018 الأربعاء ,31 كانون الثاني / يناير

تصرفات عقارات دبي تربح 3.43 مليار درهم في أسبوع

GMT 16:21 2015 الأربعاء ,16 كانون الأول / ديسمبر

فوائد الملفوف " الكرنب" لحالات السمنة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib