أوروبا موسم جديد بنكهات جديدة

أوروبا... موسم جديد بنكهات جديدة

المغرب اليوم -

أوروبا موسم جديد بنكهات جديدة

أمير طاهري
بقلم - أمير طاهري

مع انطلاق الموسم السياسي الجديد في أوروبا، هذا الخريف، يُمكن رصد عدد من الاتجاهات. يعكس الاتجاه الأول استياءً عالمياً متنامياً تجاه المنظمات الدولية، لصالح الدولة القومية التقليدية. ويرى أنصار الوضع الراهن أن هذا الاتجاه بمثابة تصاعدٍ للشعبوية، ويُعتبرونه انتكاسةً للتقدم البشري، أياً كان ما يعنيه ذلك.

واللافت اليوم أن الأمم المتحدة ليست المنظمة الدولية الوحيدة التي يجري اختزالها في دور مجرد سائقٍ خلفي في القضايا الرئيسة على الصعيد الدولي. في واقع الأمر، امتد هذا الاختزال إلى أذرعها الكثيرة، بما في ذلك صندوق النقد والبنك الدوليان، وتحولت إلى صورة باهتة من مجدها الماضي. ويذكر أنه في تسعينات القرن الماضي، سيطرت المنظمتان على اقتصادات أكثر من 80 دولة حول العالم، عبر مزيج من الآيديولوجية وضخّ الائتمان. أما اليوم، فقد جرى اختزالهما في مجرد منظمتين تمارسان التهليل أو تبادلاً للاتهامات من خلف الكواليس.

والواضح أن الاتحاد الأوروبي هو الآخر في حالة تراجع، فرغم كل الأحاديث المبالغ فيها عن بناء جيش أوروبي وتوثيق العلاقات بين الدول الأعضاء، تبقى الحقيقة أن الاتحاد الأوروبي فقد الكثير من جاذبيته الأصلية. كما يجابه الاتحاد تحديات مُتشعبة، يُعدّ خروج بريطانيا من الاتحاد، أو ما يسمى «البريكست»، مثالاً مُبكراً عليها.

من ناحيتي، أعتقد أن السبيل الوحيد لضمان بقاء الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن ازدهاره، هو إعادة صياغة نفسه باعتباره مجموعة من الدول القومية، بدلاً من أن يكون بديلاً عنها.

ويذكر أنه قبل أقل من عقد، ادّعى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس والبابا الألماني بنديكتوس السادس عشر، أن الدولة القومية قد اندثرت، وأن طريق الخلاص، داخل أوروبا على الأقل، يكمن في إحياء المسيحية باعتبارها رابطة ثقافية، إن لم يكن باعتبارها عقيدة تقليدية.

ومع ذلك، نجد أن هذا التوجه نحو التراجع كان له تأثيره كذلك على جميع الكنائس المسيحية تقريباً، وخاصة حيثما حاولت تصوير نفسها باعتبارها فاعلاً سياسياً.

ويمكن رصد تراجع مماثل على صعيد جميع المنظمات الدولية الأخرى، من الاتحاد الأفريقي إلى منظمة الدول الأميركية، مروراً بجامعة الدول العربية، والكتلة الأوراسية بقيادة روسيا، و«ميركوسور» (سوق أميركا الجنوبية المشتركة).

مثلاً، في الولايات المتحدة، تحول الحزب الديمقراطي إلى خليطٍ من جماعاتٍ مختلفة، من الماركسيين المتخفين إلى الليبراليين المتحمسين، لا يجمعهم سوى كرههم المشترك للرئيس دونالد ترمب. أما الحزب الجمهوري، الذي تأثر في البداية بما يُسمى «حزب الشاي»، فقد أصبح كياناً تابعاً لـ«الثورة الترمبية».

في بريطانيا العظمى، لا يزال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي محل خلاف بين الحزبين الرئيسيين؛ «المحافظون» و«العمال»، والتي انقسمت فيما بينها إلى ثلاثة فصائل، قد تتحول مع مرور الوقت إلى أحزاب منفصلة. وعلى مدار قرنين على الأقل، ارتكزت قوة بريطانيا بشكل أساسي على استقرار مؤسساتها وقدرة نخبتها السياسية على مواجهة كل تحدٍّ بتمسك راسخ بسيادة القانون والاعتدال.

وفي فرنسا وإيطاليا، انتزعت الأحزاب المتمردة السلطة من الأحزاب التقليدية. في ما يتعلق بفرنسا، دُفعت الأحزاب «الديغولية» والاشتراكية التي حكمت البلاد لسبعة عقود إلى الهامش، تلتها حركة «الجمهورية إلى الأمام» بزعامة إيمانويل ماكرون التي كادت تتبخر.

وفي إيطاليا كذلك، أُقصيت جميع الأحزاب التقليدية من المشهد السياسي على يد التجمعات الشعبوية من اليسار واليمين. اليوم، تُعدّ جورجيا ميلوني نجمة اليوم، ليس لأن الرجال يُفضّلون الشقراوات، بل لأنها نجحت في قيادة إيطاليا نحو النمو الاقتصادي وانخفاض التضخم.

وفي ألمانيا، تجاوز «حزب البديل من أجل ألمانيا» الانقسام بين اليسار واليمين، ليحصل على دور قيادي في السياسة الوطنية. حتى حزب إقليمي راسخ مثل «الاتحاد الاجتماعي المسيحي» يشهد تراجعاً في معقله بافاريا. ويعزف المستشار الجديد ميرز على أنغام القومية مع التركيز على الحشد العسكري.

خلال الموسم السياسي الماضي، شقّت أحزاب، معظمها جديدة، طريقها إلى مركز السلطة في العديد من الدول الأوروبية، أبرزها المجر وبولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا وهولندا والسويد.

واللافت أنه كلما ازدادت الصبغة الآيديولوجية لحزب ما، زاد تعرضه للاتجاه الحالي نحو تراجع السياسة الحزبية. ولهذا السبب اختفت جميع الأحزاب الشيوعية والقومية تقريباً أو تراجعت إلى مجرد ظل قاتم من مجدها الغابر. كما لم تُحقق الأحزاب الانفصالية، بما في ذلك في إقليم الباسك وكاتالونيا في إسبانيا، سوى تصاعد الشوفينية داخل صفوف الأغلبية القشتالية العرقية.

ويتمثل اتجاهٌ آخر آخذٌ في النمو، في ظهور سياسات القضية الواحدة، التي حلّت محل النقاش حول السياسات الشاملة الكبرى، باعتبار ذلك العرف السائد اليوم في كثير من البلدان. ومرةً أخرى، لا يزال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو النموذج.

وكان من شأن التطور الهائل للفضاء الإلكتروني توفير دفعة غير متوقعة لسياسات القضية الواحدة. اليوم، يمكن لأي شخص تقريباً في أي مكان في العالم أن يُنشئ صدًى خاصاً به حول موضوعٍ مُفضّل لديه، من انفصال فريزيا إلى إنقاذ الدببة القطبية من الانقراض، ليغلق بذلك الباب أمام العالم الخارجي وشواغله الأخرى الكثيرة. والهدف هنا يكمن ببساطة في النضال من أجل اختلاف المرء بأقصى قدرٍ ممكن من الشغف. ويتناقض هذا الاتجاه مع آخر، تُروّج له وسائل الإعلام التقليدية، أو السائدة، الذي يطرح سرداً موحداً للأحداث.

اليوم، شاهد أي قناة تلفزيونية أو إذاعية، وتصفّح أي صحيفة تقريباً، وستُفاجأ كيف تُعبّر جميعها عن نفس الشيء عمّا يجري. وبسبب التراجع الحاد في التغطية الميدانية، والناجم في الغالب عن القيود المالية، تضطر وسائل الإعلام الرئيسة اليوم إلى الاعتماد على نطاق ضيق، توفره وكالات قليلة أو الصحافيون «المواطنون». وهذا بدوره يشجع الاعتقاد المتزايد بأن الحقائق ليست سوى آراء تُعبّر عنها شعارات متداولة. أما محصلة كل هذا فليست سوى إفقار النقاش السياسي.

الحقيقة أن إضعاف الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمنظمات الدولية والمؤسسات، كالبرلمانات التي كانت توفر منصات للنقاش وصنع القرار، حرم الكثير من المجتمعات من مساحة وآلية لمعركة الأفكار والتنافس بين مختلف الخيارات السياسية.

وفي الموسم السياسي المقبل، نشهد سقوط الحكومة الفرنسية الحالية وانتخابات برلمانية حتى رئاسية محتملة، بينما تبرز دول «الجنوب»، التي لطالما كانت موضع استنكار سابقاً، أي البرتغال وإسبانيا وإيطاليا واليونان، باعتبارها ركائز جديدة لاستقرار الاتحاد الأوروبي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أوروبا موسم جديد بنكهات جديدة أوروبا موسم جديد بنكهات جديدة



GMT 20:19 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

‎قمة الدوحة.. نريدها إجراءات وليست بيانات

GMT 20:16 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

سدودنا فارغة وسرقة المياه مستمرة

GMT 20:12 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

تاريخ «لايت»

GMT 20:10 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

ما بعدَ هجوم الدوحة

GMT 20:08 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

بول بوت... جنون الإبادة الذي لا يغيب

GMT 20:07 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

ربع قرن على هجمات 11 سبتمبر

GMT 20:05 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

انزلاقات المرحلة

GMT 20:03 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

أميركا... معارك الرصاص لا الكلمات

هيفاء وهبي تتألق بإطلالات خارجة عن المألوف وتكسر القواعد بإكسسوارات رأس جريئة

بيروت -المغرب اليوم

GMT 10:40 2025 الإثنين ,15 أيلول / سبتمبر

ياسمين صبري تستعد لخوض مغامرة سينمائية جديدة
المغرب اليوم - ياسمين صبري تستعد لخوض مغامرة سينمائية جديدة

GMT 22:50 2024 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز حقائب اليد النسائية لخريف 2024

GMT 03:34 2021 الثلاثاء ,12 كانون الثاني / يناير

تعرف على أكبر وأهم المتاحف الإسلامية في العالم

GMT 12:20 2024 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

رحمة رياض بإطلالات مريحة وعملية عقب الإعلان عن حملها

GMT 15:53 2023 الجمعة ,13 كانون الثاني / يناير

الين يرتفع بدّعم تكهنات تعديل سياسة بنك اليابان

GMT 07:31 2021 السبت ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شباب الأهلي الإماراتي يخطط لانتداب أشرف بنشرقي

GMT 18:39 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 23:37 2020 الخميس ,09 إبريل / نيسان

كورونا" يسبب أكبر أزمة اقتصادية منذ سنة 1929

GMT 23:46 2019 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

بنك مغربي يصرف شيكا باللغة الأمازيغية

GMT 23:52 2019 الإثنين ,22 تموز / يوليو

الفيضانات تقتل 141 حيوانًا بريًا في الهند

GMT 11:06 2019 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

الكشف عن "ميني كاب"أصغر سيارة إطفاء في العالم
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib