العرب والصحة النفسيّة

العرب والصحة النفسيّة

المغرب اليوم -

العرب والصحة النفسيّة

آمال موسى
آمال موسى

ماذا لو طرحنا السؤالين التاليين: كيف هي صحة المجتمعات العربية نفسياً؟

وهل أنّ صحتنا النفسية تمثل عاملاً مساعداً للنهوض سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ومحاولة افتكاك موقع يليق بتاريخ الحضارة العربية والإسلاميّة؟

دائماً ما نركز على المادي في طرح مشاكلنا، والسياسي الصراعي في مستوى ثانٍ. طبعاً لا شك في أن الثروات الطبيعية والإمكانيات المادية المتنوعة من عناصر قوة أي دولة، إضافة إلى أن الاستقرار وعدم التورط في صراعات استنزافية للأرواح وللطاقة وللثروة من الأسباب الرئيسية لتراكم الثروة وتحقيق التنمية والإقلاع اقتصادياً في عالم لا يعترف إلا بالقوة الاقتصادية.
غيّر أن الثروة الأولى هي الإنسان وهي المجتمع. لا معنى لأي ثروة خارج استثمار الإنسان. وبلغة الاقتصاديين فإن الرأسمال الفعلي هو الإنسان.

ولقد استوعبت الحداثة الأوروبية هذه الفكرة المركزية، فكانت طبقاً لذلك تتمحور حول الفرد وحريته وعلوية العقل. الحداثة منذورة لإسعاد الإنسان وتحريره من الضغوطات والإكراهات والقيود الرمزية كافة. ولمّا كانت المجتمعات الأوروبية متقدمة في ارتشاف قيم الحداثة وتجذرها من جيل إلى آخر وصولاً إلى التمكن من الأنموذج الحداثي، فإن الصحة النفسية للمجتمعات التي حسمت أمرها قيمياً أقل تعقيداً من مجتمعاتنا التي ظلت مترددة وعاجزة عن إنتاج نسق قيمي يحررها من جهة، ويحفظ لها مقومات الهوية القادرة على التغيير والتعايش وإغناء الأنسنة والانخراط فيها بيسر وإبداع وانفتاح خلاق من جهة ثانية.

بمعنى آخر: صحيح أن كل المجتمعات اليوم تعاني من مظاهر صحة نفسية غير جيدة، وهذا يعود في جزء منه إلى طبيعة المجتمع الحداثي التي تتميز بالتعقيد والتركيب وعدم الاستقرار والحراك سريع الوتيرة، وما يخلفه ذلك من شعور بالغموض والقلق والرتابة... ولكن نعتقد أن مجتمعاتنا العربية الإسلاميّة تعاني بشكل مضاعف من حالة نفسية متعددة المشاكل والاضطرابات. وهو ليس اعتقاداً مسقطاً بقدر ما استندنا في تبنيه إلى ما تقوله الإحصائيات الرسمية في بعض الدول العربية.

وإذا ما توقفنا عند بعض الأرقام نجد من بينها ما أشارت إليه الإحصائيات الصحيّة للبنك الدولي من أن سبعة بلدان تنتمي إلى بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتصدر العشرة بلدان في ظاهرة الاكتئاب لدى النساء، وأيضاً الاكتئاب لدى الجنسين والهوس وانفصام الشخصية واضطرابات الشخصية النرجسيّة، والاكتئاب الحاد الذي يتسبب في تفاقم حالات الانتحار، وهو ما يعكسه ارتفاع معدل الانتحار في السنوات الأخيرة.

وبشكل أكثر تدقيقاً نجد إحصائيات رسمية في تونس تقول إن ربع السكان مصابون بالاكتئاب، وتعلن جمعيات في المغرب الأقصى أن قرابة نصف المغاربة يعانون من أمراض نفسية مثل الاكتئاب والقلق المستمر والفصام. وفي الاتجاه نفسه، أقرت منظمة الصحة العالمية أن أكثر من مليون ليبي يحتاجون إلى رعاية صحية نفسية (الحجم الديموغرافي للشعب الليبي يقدر بسبعة ملايين). وفي مصر رغم أن شعبها معروف بميله للهزل وتحدي الواقع بالسخرية والضحك، فإن الأرقام تشير إلى أن ربع المصريين مصابون بنوع من الاضطرابات النفسيّة.
لماذا نطرح هذا الموضوع؟
يبدو لنا أن التطلع إلى التنمية والتغيير الاجتماعي، لا يستقيم والصحة النفسية لمجتمعاتنا بهذا السوء. فالتنمية وحلم التقدم والتطور يحتاجان إلى إرادة وطموح وطاقة إيجابية وروح متحدّية وذات عزم وهمّة، وكل هذه الحاجيات لا يمكن أن تتوفر عند من لا ينعم بالحدّ الأدنى من الصحة النفسيّة.

وإذا ما دققنا النّظر قليلاً في طبيعة الأمراض النفسية الأكثر انتشاراً في المجتمعات العربية سنجد أنّها تتوزع بين أمراض تعود إلى أسباب متصلة بالماضي، مثل الانفصام واضطرابات الشخصية النرجسية، حيث الأنموذج الثقافي العربي يعاني من التشظي، ولا يُمكن المنتمي إليه من السعادة، ومن جهة ثانية نجد ما يحيل على علاقة متوترة مع المستقبل من خلال أمراض القلق والاكتئاب، وهي في مجملها وليدة الأزمات والصعوبات الاقتصادية، بدليل أن الفئة العمرية المستهدفة أكثر من غيرها بالقلق المستمر والاكتئاب بمختلف درجاته هي الشباب المعنيون ببناء مستقبلهم وتأمين الاستقرار الاقتصادي الذي يمكنهم بدوره من تحقيق السعادة الشخصية.

والأخطر من حدة تدهور الصحة النفسية للإنسان العربي اليوم هو أن «النفسي» لا اعتبار له، ولا يندرج ضمن الأمراض التي تستوجب المعالجة والمتابعةإ بل إن الجهر بالمشكل النفسي يعد في التمثلات العربية للأمراض النفسية فضيحة لصاحبه، ووصمة عار ستظل تلاحقه حتى وإن تجاوزها.

طبعاً لا شيء يدعو إلى الصدمة أو الاستغراب ونحن نسرد نسب مرضى الاكتئاب والفصام وغيرهما، وذلك لأن مجتمعاتنا عانت سياسياً وتعاني اقتصادياً، وما زالت ضحية تجاذبات آيديولوجية في مسار التغيير القيمي الثقافي الاجتماعي... ومن ثم فنحن أمام مشكل مفهوم الأسباب ويفسر نفسه بنفسه، ولكن ما يستوجب معالجته والتفكير فيه هو أن مجتمعات بهذا الحال النفسي الصعب والمتأزم لا يراهن عليها في البناء، ولا تمتلك إرادة الحلم والفعل. ولا يعني هذا أنه لا حل إلا بعد تعافي النفسية العربية، وإنما المقصود هو أن المعالجات السياسية والاقتصادية والشجاعة الثقافية الصائبة تفعل فعلها في هذه النفسية المتعبة وتبعث فيها الروح كي تريد ثم تنهض. فمظاهر العطب النفسية هي مؤشرات للإخفاق السياسي والاقتصادي.
البعد النفسي الاجتماعي مهم جداً، والمجتمعات التي يعاني نصفها وربعها من أمراض مانعة للفعل الخلاق ستعمل وتتزوج وتنجب وتعيش بشكل ناقص، وكل ما يصدر عنها سيكون ناقصاً ومبتوراً.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العرب والصحة النفسيّة العرب والصحة النفسيّة



GMT 14:25 2025 الأربعاء ,27 آب / أغسطس

الصحيفة.. والوزير

GMT 19:42 2025 الأحد ,17 آب / أغسطس

إنذار جريمة طريق الواحات!

GMT 15:53 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

خريطة سعدون حمادي

GMT 15:34 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

مصر للطيران!

GMT 20:44 2025 السبت ,19 تموز / يوليو

الطعن على الوجود

هيفاء وهبي تتألق بإطلالات خارجة عن المألوف وتكسر القواعد بإكسسوارات رأس جريئة

بيروت -المغرب اليوم

GMT 18:39 2025 الأحد ,14 أيلول / سبتمبر

تامر حسني يتعرض لكسر في القدم ويخفي آلامه
المغرب اليوم - تامر حسني يتعرض لكسر في القدم ويخفي آلامه

GMT 22:50 2024 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز حقائب اليد النسائية لخريف 2024

GMT 03:34 2021 الثلاثاء ,12 كانون الثاني / يناير

تعرف على أكبر وأهم المتاحف الإسلامية في العالم

GMT 12:20 2024 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

رحمة رياض بإطلالات مريحة وعملية عقب الإعلان عن حملها

GMT 15:53 2023 الجمعة ,13 كانون الثاني / يناير

الين يرتفع بدّعم تكهنات تعديل سياسة بنك اليابان

GMT 07:31 2021 السبت ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شباب الأهلي الإماراتي يخطط لانتداب أشرف بنشرقي

GMT 18:39 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 23:37 2020 الخميس ,09 إبريل / نيسان

كورونا" يسبب أكبر أزمة اقتصادية منذ سنة 1929

GMT 23:46 2019 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

بنك مغربي يصرف شيكا باللغة الأمازيغية

GMT 23:52 2019 الإثنين ,22 تموز / يوليو

الفيضانات تقتل 141 حيوانًا بريًا في الهند
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib