«الهويّة» بين دعاتها ومعارضيها

«الهويّة» بين دعاتها ومعارضيها

المغرب اليوم -

«الهويّة» بين دعاتها ومعارضيها

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

في المشرق العربيّ اليوم، وعلى رغم ندرة النقاش الجدّيّ، غالباً ما تطلّ مسألة «الهويّة» برأسها لدى تناول مسائلنا. وقد يقول الوطنيّون جدّاً، والإنسانيّون جدّاً، إنّ هذه المسألة برمّتها سخيفة أو بدائيّة أو رجعيّة. ذاك أنّ ما هو إنسانيّ فينا ينبغي أن يسمو بنا عن هويّات جزئيّة، فيما على الوطنيّ فينا أن يمانع الانشداد إلى هويّات ما دون وطنيّة، كالدينيّة والإثنيّة والطائفيّة.

وقد يكون صحيحاً، من حيث المبدأ، أنّ تلك الهويّات تقزّم الوطنيّ والإنسانيّ فينا، كما تغلّب الرمزيّات والطقوس والشكليّات على حساب المعاني الكبرى التي أكّدها التنوير، وفي صدارتها وحدة الإنسان ووحدة إنسانيّته.

فحاملو الهويّة، بهذا المعنى، يرون العالم بوصفه حدوداً صارمة تُمسك بتلابيب الروح وبكلّ ذرّة من ذرّاتها. وهي حدود لا تستطيع التقنيّة تجاوزها، كما لا تستطيع الأفكار أو المصالح أو التجارب أو الأمزجة ذلك. فنحن، في عمق النظرة هذه، لسنا سوى انعكاس للجبال والأنهار والصحارى التي نقول إنّها صنعتنا وإنّها ماضية في صناعتنا إلى أبد الآبدين.

والراهن أنّ التشبّث بالهويّة، بوصفه استسلاماً للطبيعة، ينطوي على تشاؤم عميق بالبشر وإقرار بأنّهم كائنات محدودة التأثير والفعّاليّة، لا يفضي سعيهم الذاتيّ إلى نتائج يُعتدّ بها.

ثمّ إنّ الإصابة بتورّم هويّاتيّ يُفقر الشخص ويحرمه أبعاده الكثيرة، وكلّ كائن ينطوي على أبعاد كثيرة، جاعلاً منه مجرّد أبيض أو أسود أو مسلم أو مسيحيّ...، وذلك على مدى 24 ساعة كلّ 24 ساعة. فهو هكذا فحسب، وليس أيّ شيء آخر غير هذا، وعليه أن يشعر بأنّه كذلك، بهمّة ومواظبة لا تفتران، وأن يتصرّف بموجب هذا الشعور المُلزِم.

ومنذ الأزمنة السحيقة السابقة كثيراً على الحداثة، زوّدنا «سفر القضاة» التوراتيّ بما نسخر به من رمزيّات الهويّة وطقوسها، ومن الآثار المدمّرة المنجرّة عن ذلك. فقد افتُضح أمر قبيلة أفراييم لأنّها كانت تقول sibboleth بدل الكلمة العبريّة shibboleth، ما دفع قبيلة جلعاد لأن تقتل منها 42 ألف شخص جرّاء إنقاصها حرفاً واحداً.

وعلى هذا المنوال رسمت الدعابة المُرّة، في بدايات الحرب الأهليّة اللبنانيّة، هذا الانشطار الذي قد يسبّب الموت لمن يقول «بَنْدورة» بدل «بَنَدورة».

وقد يصحّ في الهويّة بعض ما يصحّ في المرأة، كما وصفتها سيمون دو بوفوار بعبارة شهيرة. فهي «لا تولد امرأة، بل تصبح امرأة»، أي أنّ أسباباً اجتماعيّة وثقافيّة تشكّلها وتحدّد أدوارها أكثر ممّا يفعل قَدَر بيولوجيّ محكم ومسبق. ووفق هذا التصوّر يتّضح الفارق بين كون المرأة أنثى بيولوجيّاً وبين البناء الاجتماعيّ الذي يجعلها، بوصفها دوراً ووظيفة اجتماعيّين، امرأة.

لكنّ تلك التصوّرات لا تحلّ الكثير من المشاكل في الواقع الفعليّ، تماماً كما أنّ نظريّة «البناء الاجتماعيّ» لا تعزّي أحداً ولا تعني بتاتاً سهولة حلّ المشكلة وتجاوزها.

وبهذا ينطوي الإنكار المطلق للهويّة على وعظ غالباً ما يكون ساذجاً، وعلى لون من التفاؤل البسيط بالبشر وتعويل مبالَغ فيه على نجاحهم في ترويض الطبيعة والثقافة.

ولنتذكّر، وتحت أنوفنا عشرات الأمثلة، أنّ الواقع الفعليّ بالغ الخصوبة، لا في توليد الهويّات فحسب، بل في صبغها بالعدائيّة والتناحر. فالواقع نفسه، بوصفه ساحة تمييز وغلبة، هو الذي يقزّم الوطنيّ والإنسانيّ فينا، وينجح في ذلك، وهو الذي يزرع في واحدنا شرّاً يجعله يرى الآخر بوصفه شرّاً، وينجح أيضاً. وهذا وذاك يحصلان في منطقة أفلست فيها الهويّة الوطنيّة المزعومة ودولتها وتصدّع الإطار الوطنيّ للسياسة. وإذ يتبدّى، أقلّه في المشرق، أنّ شعوباً متناحرة عدّة تقيم تحت غلالة الشعب الواحد، تذوي الإيديولوجيّات الحديثة، كالقوميّة والاشتراكيّة وسواهما ممّا كانت الجماعات تستظلّ بها في عقود سبقت، ليصبح التعريف الأهليّ المحض هو نفسه إيديولوجيّة الجماعات.

ولسوف يكون سخيفاً وعبثيّاً مطالبة الجماعة المهدّدة بالموت أو الإبادة أن تردّ بإعلان تمسّكها بهويّة وطنيّة أو إنسانية، وأن ترفض التعامل مع «العدوّ القوميّ» فيما هو ينقذها من الموت الذي يهدّدها به «الأخ» الوطنيّ أو الإنسانيّ المزعوم.

وكانت هنه أرنت، في أحد مواقفها الشهيرة، قد طالبت اليهوديّ إذا هوجم كيهوديّ «أن يدافع عن نفسه كيهوديّ، لا كألمانيّ أو كمواطن عالميّ ولا كمتمسّك بحقوق الإنسان». وهو ما يصحّ، بطبيعة الحال، في الفلسطينيّ حين يُستهدَف كفلسطينيّ، وفي المسلم والمسيحيّ والكرديّ والعلويّ والدرزيّ وأيّ كان.

وأغلب الظنّ أنّ الاعتراف بالهويّات المظلومة وإشباعها يفيان بالغرض أكثر كثيراً ممّا يفعل إنكارها والتعالي عليها. فعبر إشباعها يمكن دفعها إلى الحدّ من إطلاقيّتها ومن انغلاقها وتفسيرها التاريخ انطلاقاً من حقبة بعينها هي حقبة احتدامها وتوتّرها. وعبر الإشباع نفسه تتراجع نظرتها إلى نفسها ككتلة صخريّة لا تقبل الانقسام، وإلى العالم بوصفه حرباً دائمة.

وحتّى إشعار آخر فإنّ صناعة الهويّات، بالقاتل منها والمقتول، أقوى صناعاتنا. وليس مفيداً ولا لائقاً أن يقف المرء على شوك ويظنّ نفسه واقفاً على حرير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الهويّة» بين دعاتها ومعارضيها «الهويّة» بين دعاتها ومعارضيها



GMT 15:23 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

عفواً سيّدي الجلاد

GMT 15:21 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

الفوسفات والذنيبات والمسؤولية المجتمعية تصل البربيطة

GMT 15:18 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أبو دلامة وجي دي فانس

GMT 15:07 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

العودة إلى إسحق رابين

GMT 14:59 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

من الساحل إلى الأطلسي: طريق التنمية من أجل الاستقرار

GMT 14:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

فضيحة في تل أبيب!

GMT 14:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تفرح بافتتاح المتحف الكبير (1)

GMT 14:42 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

شخص غير مرغوب فيه

نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 13:31 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط
المغرب اليوم - طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط

GMT 18:26 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير
المغرب اليوم - بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير

GMT 21:54 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة
المغرب اليوم - تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة

GMT 18:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي
المغرب اليوم - خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي

GMT 20:20 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

4 أصوات تشير إلى أعطال في محركات السيارات

GMT 06:27 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

دراسة تؤكّد تأثير حجم المخ على التحكّم في النفس

GMT 21:07 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

"سباق الدراجات" يدعم ترشح المغرب للمونديال

GMT 01:40 2018 السبت ,10 آذار/ مارس

رجل يشكو زوجته لسوء سلوكها في طنجة

GMT 05:32 2017 الأربعاء ,03 أيار / مايو

محمود عباس فى البيت الأبيض.. من دون فلسطين!

GMT 06:27 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

باكستان تُبعد صاحبة صورة ناشيونال جيوغرافيك الشهيرة

GMT 04:19 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

"فرزاتشي Versaci" تطلق مجموعتها الساحرة لعام 2017

GMT 07:02 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

فيلم الرعب الأميركي "Happy Death Day" الأول على شباك التذاكر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib