في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

المغرب اليوم -

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

قد يكون سابقاً لأوانه الجزم بالوجهة التي ستسلكها بلدان المشرق: سوريّا خصوصاً، ولكنْ أيضاً لبنان والعراق. فهذه البلدان جمع بينها الانهيار المديد الذي، وإن تفاوتت علنيّته، ضربها كلّها، ومعها أطاح منظومة الأفكار والتصوّرات التي قامت عليها. وإذا صحّ أنّ الأوطان تحتاج «أساطير مؤسِّسة»، تستنهض مخيّلة الجماعة وتخاطب تجاربها، مستندةً إلى قراءة للتاريخ تقتطف بعض عناصرها وتغلّبها على سواها من العناصر، فالمؤكّد أنّ الأساطير المؤسِّسة القديمة تترك المشرقيّين، في تهاويها، أمام حاجة إلى بدائل أوسع إقناعاً وتمثيلاً، وأشدّ قابليّة للديمومة.

ففي سوريّا، وحتّى قبل سقوط نظام بشّار بسنوات، كانت قد انهارت أسطورة أبيه البعثيّة، والدائرة حول «الوحدة والحرّيّة والاشتراكيّة» و»تحرير فلسطين» و»محاربة الرجعيّة والإمبرياليّة»... هكذا كانت سنوات حكم النجل عديمة الأساطير، فقيرة المعنى، تغطّي بالتفاهة والجريمة فقرها في هذا الجانب كما في كلّ جانب آخر.

والأسطورة البعثيّة إيّاها كانت قد قُبرت في العراق مع سقوط صدّام عام 2003، ليُستعاض عنها بنُتَف متضاربة وغير واضحة المعالم لم يظهر أيّ طموحٍ جدّيّ لبلورة أيّ منها.

أمّا في لبنان، فأصابت «حرب السنتين» بالرثاثة الأساطير المؤسِّسة، بقديمها شبه الأركيولوجيّ (الماضي الفينيقيّ...)، وجديدها التجاريّ والماليّ (سويسرا الشرق...). فحين انتهت الحرب، صعدت أسطورة «المقاومة» التي تفوق سابقتها رثاثةً وانقساميّةً، لكنّها تفوقها خصوصاً في اختزانها نزعتي التدمير والتدمير الذاتيّ.

وفي هذه الغضون، وعلى نحو دائم، تخلّلت معظمَ تلك الأساطير تصوّراتٌ مستقاة من الإسلام السياسيّ أقامت فيها كلِّها، وفي سائر بلدان المشرق، عناصر التسلّط ومعه الاحتراب المذهبيّ والدينيّ. وعلى نطاق أضيق كثيراً، تراءى لمجموعات وطنيّة في تلك البلدان أن تطرح شعارات حسنة النوايا، إنّما كسولة، تفيد أنّ بلدها «أوّلاً» (لبنان أوّلاً، سوريّا أوّلاً...). بيد أنّ تلك الشعارات تبقى شعارات، بمعنى أنّها لا تؤسّس أساطير وتصوّرات عريضة، فيما يتهدّدها السقوط في احتمالات قوميّة وشوفينيّة متعالية لا سند لها في واقع البلدان الضعيفة. يضاف إلى هذا أنّ تأويلها، وبحكم التجربة، غالباً ما يلبس لبوس جماعة أهليّة بعينها في كلّ واحد من البلدان.

والواقع أنّ ما يشترك فيه سكّان المشرق هو، قبل كلّ شيء آخر، تعرّضهم لعنف لم ينقطع منذ قيام دولهم الحديثة. وبهذا المعنى، ربّما جاز الرهان على رفض العنف بوصفه الحاضنة العريضة التي تحيط بعمليّة إنتاجهم أساطيرَهم المؤسِّسة. فلئن كان الانقلاب العسكريّ ونظامه هما مصدر العنف في سوريّا والعراق، فإنّ الحرب الأهليّة ومتفرّعاتها هي مصدره في لبنان. لكنْ في الحالتين، يقودنا العنف إلى نتائج عشناها جميعاً في المشرق يمكن إيجازها بالسمات الخمس التالية:

- عذابات السكّان موتاً وقمعاً وتهجيراً وفقراً.

- تفشّي حالات ميليشيويّة مباشرة، كما في لبنان، أو مداورة، كما في سوريّا والعراق، وانتعاشها على حساب الدول والقوانين والمؤسّسات.

- ارتهان السياسة المحلّيّة لبلد من البلدان بمحور إقليميّ ما وبصراعاته.

- التعيّش، ولو صراخاً، على عدد من أفكار القوّة والغلبة، لا سيّما منها «ديانة» مقاومة إسرائيل.

- بناء البلدان المذكورة علاقاتٍ سيّئة بجوارها وعالمها المحيط بالعربيّ منه والغربيّ، وبعلاقات تبعيّة مع إيران (وبالنسبة للبنان حتّى 2005، مع سوريّا).

لقد تسبّبت تلك التجربة (انقلابات + حروب أهليّة + مقاومة + ميليشيات...) بإفساد أفكار كالاستقلال أو الوحدات الوطنيّة. وهي، في آخر المطاف، تجربة يتساوى الجميع، ولو بتفاوت، أمام نتائجها الكارثيّة، والاكتواء بنارها، فلا فضل حيالها لطائفة أو جماعة على أخرى.

وهذا الرفض العميق للعنف، انقلاباً عسكريّاً وحرباً أهليّة، إنّما يحضّ على اعتماد أنظمة تربويّة تتلقّاها الأجيال جيلاً بعد جيل. وهو ما حاول صياغته الزميل بشّار حيدر في صحيفة «نداء الوطن» اللبنانيّة، مطالباً سوريّي ما بعد الأسد بإنشاء «متاحف تروي قصّة كلّ فرد وعائلة وقرية وبلدة ومدينة عانت من نظام الأسدين، وأن يقيموا معارض تحكي قصص الاعتقال والتعذيب والقتل والتدمير والأسلحة الكيماويّة وبراميل الموت، وأن ينشئوا مراكز أبحاث وأقساماً جامعيّة تُعنى بالقهر السوريّ، تدرس وتعمل على جمع كلّ ما يمتّ لهذا القهر بصلة، وأن يعلّموا أولادهم في المدارس حكاية ذلك القهر وانتصارهم عليه، ويجعلوا من زيارة سجون صيدنايا وتدمر وغيرها من الأماكن التي تشهد على العذاب السوري طقوساً تشكّل وعيهم الوطنيّ والإنسانيّ».

فالخطط الدفاعيّة المطلوبة ليست جيوشاً قويّة وشعوباً مقاوِمة وباقي الترّهات المجرّبة والمفلسة، بل توطيد فكرة الخروج من العنف وإعادة تأسيس الذات على نزوع سلميّ عميق يصبو إلى مستقبل يتّعظ بالماضي.

وقد لا تكون هذه الأسطورة كافية بذاتها لبلورة معانٍ أدقّ للوطنيّة، خاصّةٍ بكلّ واحدة من وطنيّات المشرق، لكنْ من دونها لن تتبلور معانٍ ولا وطنيّات.

أمّا من شاء المضيّ في الطواف حول «مليون شهيد» في الجزائر، أو في الاستشهاد للارتقاء على طريق القدس، فبورك له.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق



GMT 17:11 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

الأردن في مواجهة أوهام إيران والإخوان

GMT 17:10 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

يوم وطني في حرثا

GMT 17:08 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

مفكرة القرية: القرد وعايدة

GMT 17:07 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

تعفّن الدماغ... وحبوب الديجيتال

GMT 17:06 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

ثلاثة مسارات تغيير في الشرق الأوسط

GMT 17:03 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

أي كأس سيشرب منها كل من خامنئي وترمب؟

GMT 17:02 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

«كايسيد»... آفاق مشتركة للتماسك الاجتماعي

GMT 17:00 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

المستفيدون من خفض سعر الفائدة

تنسيقات مثالية للنهار والمساء لياسمين صبري على الشاطيء

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 21:54 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

زيلينسكي يعلن موقفه من هدنة "عيد الفصح"
المغرب اليوم - زيلينسكي يعلن موقفه من هدنة

GMT 21:47 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

بوتين يعلن عن هدنة "عيد الفصح" في أوكرانيا
المغرب اليوم - بوتين يعلن عن هدنة

GMT 19:44 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

فضل شاكر يطلق أغنيته الجديدة “أحلى رسمة”
المغرب اليوم - فضل شاكر يطلق أغنيته الجديدة “أحلى رسمة”

GMT 23:53 2020 الأحد ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

لاعب الأهلي المصري وليد سليمان يعلن إصابته بكورونا

GMT 06:34 2018 الأحد ,03 حزيران / يونيو

النجم علي الديك يكشف عن "ديو" جديد مع ليال عبود

GMT 02:20 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

الدكالي يكشف إستراتيجية مكافحة الأدوية المزيفة

GMT 02:12 2018 الأربعاء ,10 كانون الثاني / يناير

مي حريري تكشف تفاصيل نجاتها من واقعة احتراق شعرها

GMT 04:04 2017 الأحد ,03 كانون الأول / ديسمبر

الفيلم السعودي 300 كم ينافس في مهرجان طنجة الدولي

GMT 06:00 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار جديدة لاستخدام القوارير الزجاجية في ديكور منزلك

GMT 02:38 2017 الخميس ,26 كانون الثاني / يناير

زيادة طفيفة في التأييد العام للسيدة الأولى ميلانيا ترامب

GMT 14:00 2023 السبت ,25 آذار/ مارس

عائشة بن أحمد بإطلالات مميزة وأنيقة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib