بقلم : د جبريل العبيدي
صحيحٌ أنَّ لليبيا جيراناً ستة، ولكنهم ليسوا على قلبِ قرارٍ واحد طيلة الأزمة الليبية، التي تجاوزت العقد ونيِّفاً، واكتوت بها بلدانُهم، لا ليبيا وحدها. فقد كان بينهم من تقوقع على نفسه، تاركاً ليبيا وأزمتها تتفاقم، مكتفياً بالفرجة من خرم الحدود، بينما تدخَّل آخرون إيجاباً، وبعضهم تدخَّل سلباً ففاقم الأزمة وجعلها أكثر تعقيداً.
الشأن الليبي المأزوم، محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً، لم تتدخَّل فيه دول الجوار الليبي فقط، بل جاء آخرون من أعالي البحار، يرسمون جغرافيا مُزيَّفة تجعل من ليبيا دولةً حدوديةً لهم، ضمن خرافة «الوطن الأزرق» التي تبنّاها ساسة تركيا، والتي كان تدخلها في الأزمة الليبية سلبيّاً طيلة السنوات العجاف الماضية. لكنها في السنوات الأخيرة بدأت تقترب من الحياد الإيجابي في الأزمة الليبية، بعد أن كانت جزءاً منها.
اليوم، تقدَّمت ثلاثية الجوار الليبي التي تضمُّ مصر وتونس والجزائر، حيث وُضِعَت «آلية دول الجوار الثلاثية»، التي تؤكد أهمية إعلاء مصالح الشعب الليبي، والحفاظ على مقدراته وممتلكاته، ورفض التدخل الخارجي في الشأن الليبي.
تختلف دول الجوار الليبي الثلاث في تاريخها تجاه الأزمة الليبية؛ فمصر مثلاً كانت دائمة التدخل الإيجابي، تسعى لجمع الأطراف كافة، ولا تُغلِّب طرفاً على آخر، باستثناء ملاحقة الإرهابيين والحرب على الإرهاب. أما تونس، ففي بداياتها، مع حُكم حركة «النهضة» الإخوانية، كانت حكومة الجبالي الإخوانية متَّهمة بترحيل مقاتلين تونسيين وأجانب للقتال في ليبيا وسوريا، وهو اتهامٌ وجَّهَهُ القضاء التونسي إليها. وكانت تونس في تلك الحقبة جزءاً من الأزمة الليبية ومصدراً سلبيّاً. أمَّا تونس اليوم، في عهد قيس سعيِّد، فقد أصبحت مكاناً ووجهةً لاجتماع الفرقاء الليبيين، وساهمت في حلحلة الأزمة الليبية وتقريب وجهات النظر، دون تدخُّلٍ في الشأن الليبي، بل فتحت قنوات التواصل مع جميع الأطراف، دون تغليب طرفٍ على آخر، مما جعلها اليوم مكاناً مناسباً لأي تسوية سياسية في ليبيا.
الجزائر، الجار الثالث لليبيا، كان لها موقفٌ سلبيٌّ من الجيش الليبي، ورفضت التعاطي معه أو التعاون، رغم أنه لولا الجيش، لكانت الجماعات الإرهابية والإخوان المسلمون قد سيطروا على الشرق الليبي بأكمله، ولأصبحت ليبيا كلها منطلقاً لهم لتهديد أمن الجزائر، لا سيما أن الإخوان هدفهم هو إقامة «دولة الخلافة» ودولة «المرشد». ولولا الجيش، لالتحم إخوان ليبيا مع إخوان الجزائر، ولأقضُّوا مضاجع الجيران، بمن فيهم الجزائر. وبالتالي، فإن تأمين الحدود بين الطرفين يدفع الجزائر إلى التعاون مع الجيش الليبي، لا سيما أن هذا الجيش هو مَن يُؤمِّن الحدود مع الجزائر، ويمنع تسلل الجماعات الإرهابية على امتداد الحدود التي تبلغ نحو ألف كيلومتر، مما يجعلها مصدر قلق للطرفين.
وقد رأينا ذلك في التصريحات التي صدرت من أعلى المستويات في الجزائر إبّان زحف الجيش نحو طرابلس لتحريرها من قبضة الميليشيات، إذ جاء فيها: «طرابلس خطٌّ أحمر، وإنَّ الجيش الليبي لو دخلها، فسيُرسَل الجيش الجزائري لمنعه»، وهي تصريحاتٌ عُدّت مستفزةً، كونها تمثل تدخلاً في الشأن الليبي، ومنعاً لجيش وطني من تحرير عاصمته من قبضة الميليشيات، وهو ما رفضه البرلمان الليبي المنتخب، وعدَّهُ تدخلاً سلبيّاً من الجزائر.
الجزائر اليوم تحاول إعادة ترتيب سياستها بشكلٍ مختلف يخدم الأزمة السياسية في ليبيا.
الاقتراب الإيجابي وتصحيح الجزائر موقفها كان واضحاً في بيان ثلاثية الجوار الليبي (مصر، وتونس، والجزائر)، في الاجتماع الذي رعته القاهرة، حيث خرج بموقف موحد من الأزمة الليبية، وطرح رؤيةً وآليةً ثلاثيةً مشتركةً للحل، تتبنّى رفضَ التدخلِ في الشأن الليبي من أي طرف.
وقد جاء في بيان الثلاثية «المصرية - التونسية – الجزائرية» بشأن الجارة ليبيا: «نؤكد دعمَنا لعمليةٍ سياسيةٍ شاملة، تحفظ وحدة ليبيا، وتُلبّي تطلعات شعبها، مع رفضٍ مطلقٍ لكل أشكال التدخل الخارجي في ليبيا». وأكد الوزراء «ضرورة (الملكية الليبية) الخالصة للعملية السياسية في ليبيا، وأن الحل السياسي يجب أن يكون (ليبيّاً - ليبيّاً)، نابعاً من إرادةٍ وتوافقٍ بين جميع مكونات الشعب الليبي، دون إقصاء، وبمساندةٍ ودعمٍ من الأمم المتحدة».
خطوة دول الجوار الليبي الثلاث لتوحيد موقفها بشأن آلية حلحلة الأزمة الليبية تُعَدُّ خطوةً مهمةً، بعد نحو عقدٍ ونصف من السنوات العجاف التي شهدت فيها الأزمة الليبية تأخراً وتراجعاً وتقوقعاً كبيراً لدول الجوار عن أن تكون جزءاً من الحل، حتى من باب الحفاظ على أمنها القومي.