رجال ومنعطفات وبصمات

رجال ومنعطفات وبصمات

المغرب اليوم -

رجال ومنعطفات وبصمات

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

يترك الأقوياء بصماتِهم على حياة دولهم وشعوبهم. والبصمات أنواع. بعضها يستلزم حقباً كاملة من الجهد لتضميد جروح ضحايا أصحابها. والتاريخ ليس مستودعاً محايداً لبصمات الأقوياء. يستقبل الوافدين إلى أنفاقه ثم ينهض ليعيدَ محاكمتهم. يترك شرفة استثنائية لمن قادوا شعوبهم على طريق التقدم والعدالة وبناء الجسور.

التاريخ مشرحة تعيد فتح الملفات والجروح والمحاكمات وتفكك الروايات المطبوخة بالعطور الرسمية ومساحيق التجميل. وللبصمة علاقةٌ بالرجل وقدراته، وبالمنعطف وحساسيته، وبثقل المسرح الذي يتحرك عليه. هربَ الربع الأول من هذا القرن سريعاً. انفجرت فيه العلوم المتراكمة والأبحاث وفتحت أبواب التقدم العلمي والتكنولوجي على مصراعيها. نحن الآن في عهدة زائر كبير اسمه الذكاء الاصطناعي. سيغير هذا الزائر عالمنا وأسلوب حياتنا وسيغني تجربةَ الطبيب والمهندس والمدرس والجنرال ومدير المخابرات. سنترك مهمة إنصاف العلماء وصانعي اللقاحات ضد الأوبئة ورواد التقدم الفكري والفني والثقافي للخبراء في هذه الحقول. نحن تكفينا مهمة البحث عن بصمات ملاكمي السياسة وفنونها.

أسرف الرئيس بوريس يلتسين في كل شيء. ترنّح وترنّحت معه روسيا الخارجة بجروح كثيرة من الركام السوفياتي. اختار يلتسين المغادرة مع القرن. عشية القرن الجديد سلّم مفاتيح الكرملين للضابط الوافد من غموض الـ«كي جي بي» وخيبة جدار برلين. أنقذ فلاديمير بوتين الاتحاد الروسي من التفكك وروّض بارونات المناطق وأخضع حيتان المال. هادئ وبارد ولا تعوزه القسوة. لا يحقّ لك رفض كأس السم إذا كانت هدية من القيصر. خدع السيد الرئيس الغربَ وأعاد بناءَ الجيش الأحمر الذي يقاتل اليوم على أرض أوكرانيا مستعيناً بالرفاق الذين أوفدهم حفيد كيم إيل سونغ.

كان بوتين ينتظر هدايا دونالد ترمب حين هبّت عليه رياح الانتكاسة السورية. يبتسم. كان بشار الأسد صعباً. يستمع إلى النصائح ثم يتناساها متوهّماً القدرة على الرقص على حبال كثيرة. لا يمكن إنقاذ القارب نفسِه مرتين. أمضى العالم ربع قرن مع بوتين الذي روّض الدستور والجنرالات وحرص في الفترة الأخيرة على العزف ببراعة على قيثارة الترسانة النووية. يستطيع بوتين أن يراجعَ مع «ضيفه» بشار الأسد قصة ربع قرن من عمر العالم.

حمل الربع الأول أيضاً بصمات رجل أطل في العقد الثاني منه، اسمه شي جينبينغ. منذ عام 2013 تسلم قيادة السفينة الصينية. رجل قوي غيّر قواعد اللعبة. طوى صفحة القيادة الجماعية و«أقنع» الصين بعدم صوابية حصر الرئاسة بولايتين. حارب الفسادَ بقسوة وانتهج سياسة خارجية أكثر حزماً. ولأنَّ الأحزاب تعشق الأقوياء، حجز له الحزب موقعاً موازياً لموقع «الربان العظيم». الزعيم الصيني بارع. ماوتسي تونغ ينام مُكرّماً في قبره. لم يبقَ من كتابه الأحمر غير آلة صارمة لفرض النظام وكبح «المنشقين». يمارس شي القيادة بصبر وبراعة. من حسن حظ العالم أنَّه لم يتهوّر ولم يقفز إلى تايوان على غرار ما فعل بوتين مع أوكرانيا. زعيم الاقتصاد العالمي ليس محظوظاً. بعد أسابيع سيعود اسمُ سيد البيت الأبيض دونالد ترمب. ستعود أميركا إلى ملاكمة الشبح الصيني بالرسوم وإجراءات الحماية.

بعد عام من تولي شي الرئاسة في الصين، سلّمت الهند مكتب رئيس الوزراء لرجل قوي أيضاً اسمه ناريندرا مودي وهو لا يزال مقيماً. خفض مودي مخاطر الاشتباك مع الجار الصيني وأفاد إلى أقصى حد من روسيا الغارقة في أوكرانيا من دون أن ينسى أنّ زعامة العالم معقودة لأميركا حتى إشعار آخر. تحولت الهند حاجةً لكثيرين. تحتاج إليها روسيا كيلا تصبحَ مجردَ أسيرة لحليفها الصيني، وتحتاج إليها أميركا لموازنة الصعود الصيني آسيوياً ودولياً. أفاد مودي كثيراً من ثمار السياسات الاقتصادية التي انتهجها سلفه مانموهان سينغ والتي ساهمت في تحديث الاقتصاد وعصرنته والانخراط في التقدم التكنولوجي ومكافحة الفقر. إقامة مودي الطويلة تساعده على ترك بصماته على ملامح بلاده في الداخل والخارج. اعتدنا على الكتابة عن الشرق الأوسط عبر البصمات التي تركتها الانهيارات كما حصلَ لعراق صدام حسين، أو ليبيا معمر القذافي، أو سوريا بشار الأسد، أو بصمات الحروب التي يديرها بنيامين نتنياهو. ولطالما حلمنا بأن تطلَّ دول الشرق الأوسط ببصمات أخرى تفتح أبواب المستقبل بدلاً من أن تحك جروح الماضي.

في النصف الثاني من العقد الثاني أطلَّ من السعودية شابٌ اسمه محمد بن سلمان. استحقَّ الشَّاب ثقةَ والده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رأى فيه عراقةَ الماضي ولمعانَ المستقبل. القدرة على الاتصال بالناس موهبة تصنع الفوارق والمنعطفات والبصمات. شعر الجيلُ السعودي الشاب أنَّ سانحة تاريخية تطل فتقدم لملاقاتها. انعقدت أواصرُ الحبّ والولاء والودّ بين الطاقات المنتظرة ومهندس الأحلام والأرقام في «رؤية 2030». وهكذا انكسرتِ الأقفال التي كانت تحجب القدرات وتصادر المساحات والساحات. البلادُ ورشةٌ لا تنام والأحلام تُترجم وتفتح الباب لمزيد من الأحلام. إصلاحات تحولت نهضة شاملة وتغييرات عميقة في الاقتصاد ومناحي الحياة. سرى في عروق المجتمع أملٌ استقطب أجيالاً متعددة بعدما شعر الجميع أنَّ مستقبلاً زاهياً سيحرس عراقة الماضي.

التقدم والاستثمار والازدهار والشراكات والتعاون ومحاربة الفساد وتحسين مستوى حياة الناس. الصحة والتعليم والتقدم التكنولوجي والبيئة والابتكار والتدريب والإتقان والمسؤولية المحلية والإقليمية والدولية. مفردات يسمعُها زائرُ السعودية التي خرجت من نزاعات الماضي لتركز على قيم التلاقي والتعاون وبناء الجسور. وفي مقابل نهضة الداخل تعزّز حضور السعودية إقليمياً ودولياً وتقاطر الزوار لمعاينة التجربة الجديدة والبحث عن فرص استثمار ومصالح مشتركة.

سريعاً ظهرت بصمات محمد بن سلمان على حياة بلاده. تقدّم تجربته نموذجاً يخاطب عقول وقلوب كثيرين في العالم العربي والإسلامي. قدرنا ليس الاصطدام بالعالم بل امتلاك شروط الانخراط فيه والمشاركة في صنع مستقبل أفضل للأجيال المقبلة. يبدو محمد بن سلمان عنيداً في أحلامه. يدعو زائره إلى عدم اليأس من أحوال المنطقة. يذهب إلى حدّ الحلم بمستقبل للشرق الأوسط يشبه المشهدَ الأوروبي. وفي صناعة المستقبل لا بدَّ من علاقات متكافئة ومثمرة مع بكين وموسكو، وطبعاً مع واشنطن التي تستعد لعودة ترمب. في نهاية عامٍ وربع قرن يحقُّ للعالم أن يحلمَ بأيام أفضل ويحق لأهل الشرق الأوسط أن يرتكبوا مثل هذا الحلم رغم قسوةِ المشاهد الوافدة من مستشفيات غزة وسجونِ دمشق.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رجال ومنعطفات وبصمات رجال ومنعطفات وبصمات



GMT 20:30 2025 الأربعاء ,17 أيلول / سبتمبر

سوريا… عقدة النظام الإيراني!

GMT 20:28 2025 الثلاثاء ,16 أيلول / سبتمبر

طبيعة الحرب الأوكرانيّة تغيّرت…

GMT 20:25 2025 الأربعاء ,17 أيلول / سبتمبر

مع تحيات حنظلة

GMT 20:24 2025 الثلاثاء ,16 أيلول / سبتمبر

سيرة المؤشر

GMT 20:13 2025 الأربعاء ,17 أيلول / سبتمبر

هناك ما يمكن عمله ضد إسرائيل

GMT 20:11 2025 الثلاثاء ,16 أيلول / سبتمبر

هل ضجر العالم من الواحدية الأميركية؟

GMT 20:07 2025 الأربعاء ,17 أيلول / سبتمبر

‎خمس نقاط مهمة في كلمة السيسي بالدوحة

GMT 20:01 2025 الأربعاء ,17 أيلول / سبتمبر

عن مؤتمر دولي واجب الانعقاد... ومستحيل

هيفاء وهبي تتألق بإطلالات خارجة عن المألوف وتكسر القواعد بإكسسوارات رأس جريئة

بيروت -المغرب اليوم
المغرب اليوم - اسرائيل تعتمد خطة من ثلاث مراحل للهجوم على مدينة غزة

GMT 22:13 2018 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

"الرجاء" يخصص ملعب نجم الشباب لمنح بطاقات الاشتراك

GMT 09:54 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

طبيعة علاقة الأحفاد بأجدادهم تحدد مواقفهم من كبار السن

GMT 02:04 2016 الأربعاء ,08 حزيران / يونيو

زيت كبد سمك القد و السكري Cod Liver Oil

GMT 12:38 2017 الإثنين ,04 كانون الأول / ديسمبر

العجلاني يحذر المغاربة من الاستخفاف بمنتخب إيران

GMT 08:29 2016 الثلاثاء ,02 آب / أغسطس

العاهل المغربي والانتخابات

GMT 08:42 2017 الثلاثاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

3 سيناريوهات تنقذ أنجيلا ميركل من أزمة إنقاذ المصير

GMT 13:59 2014 الأربعاء ,22 كانون الثاني / يناير

بر جدة تكرم 70 يتيمًا نظير تفاعلهم مع أنشطة دار الفتيان

GMT 12:02 2016 الأحد ,10 تموز / يوليو

ميني كيكه التمر بصوص الحلاوه الطحينيه

GMT 00:11 2017 الأربعاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

العربي القطري يرغب في التعاقد مع لاعب الزوراء إبراهيم بايش

GMT 00:45 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

بدر بانون وجواد الياميق يلتحقان بتدريبات الرجاء

GMT 08:22 2017 الجمعة ,27 تشرين الأول / أكتوبر

قصي خولي لم يكشف كواليس الحادث الذي تعرض له أخيرًا

GMT 13:30 2013 الأربعاء ,27 آذار/ مارس

بركان ينفجر في روسيا ويقذف حممه بارتفاع 200 متر

GMT 22:58 2017 الخميس ,28 أيلول / سبتمبر

اكتشاف صدع عملاق نادر في صحراء أريزونا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib