الرَّجلُ الذي طَوَى «صفحةَ الأسدين»

الرَّجلُ الذي طَوَى «صفحةَ الأسدين»

المغرب اليوم -

الرَّجلُ الذي طَوَى «صفحةَ الأسدين»

غسان شربل
بقلم - غسان شربل

دخلتُ مع زملاءَ «قصر الشعب» السوري. شاهدت رئيساً شاباً اسمُه أحمد الشرع، يجلس على كرسي الأسدين. تعمَّق شعوري أنَّ ما حدث في سوريا كبيرٌ وعميق، وسيترك بصماتِه على الخريطةِ السورية وربَّما خارجها.

لم تقتلعْ عاصفةُ الشرعِ فقط نظاماً مفرطَ القسوةِ أقامَ أكثرَ من نصف قرن. اقتلعت أيضاً قاموساً كانَ سائداً في العقود الماضية. وحين تشاهد الشرعَ في القصر لا تستطيع أن تنسى أن عاصفتَه اقتلعت أيضاً سوريا من محور الممانعة، ودفعت إيرانَ إلى دور أقلَّ في الإقليم. قطعت عاصفةُ الشرع طريقَ طهران إلى بيروتَ عبر أراضي العراق وسوريا؛ وهو طريق الممانعةِ والصواريخِ وصناعة أدوارٍ وتحجيم أدوار.

لا أريد المبالغةَ في وصفِ التحوّلِ السُّوري لكن ما جرَى أعادَ رسمَ حدودِ الأدوار والأحجام؛ من «حزب الله» اللبناني إلى «الحشد العراقي»، وبالتالي مصير أكثر من خريطة.

لفتني أولاً أنَّ الفريق المحيط بالرئيس لم يطلب من الفريق الذي لبَّى الدعوة، تحاشي الأسئلة الحساسة. قال إنَّ كل المواضيع مباحة. وظهر سريعاً أنَّ الشرع ليس مرتبكاً بالمحطات السابقة في مسيرته، بما في ذلك الانضواء في «القاعدة» والإقامة لسنوات في سجن عراقي.

كلامُه واضحٌ وصريح وليس بسيطاً، إذا أخذنا في الاعتبار طبيعةَ القوى التي تقدَّمت إلى دمشقَ تحت قيادته. لا يعدّ نفسه امتداداً لتجارب الحركات الجهادية أو القومية التي يؤكد فشلها، وليس مكلفاً إرثاً «إخوانياً».

بلغةٍ منطقية صاغ الشرع مواقفَه. يطالب العالمَ بالتعامل مع سوريا كشعب ودولة، وليس كمكونات ومحاصصات. يبدي استعداداً لمناقشة الهواجس لكن تحت مظلةِ عدم التفريط في وحدة الأراضي السورية.

لا يُخفِي أنَّ أحداث السويداء تركت جرحاً، وأنَّ انتهاكاتٍ حصلت من قبل أكثر من فريق بما فيها أخطاء من قوات الأمن. يبدو راغباً في تفادي وجبة دموية مع أكراد مظلوم عبدي، لكنَّ السؤالَ يبقى معلقاً على الحسابات التركية والأميركية.

واضح أنَّ الشرع شديدُ الارتياح إلى مظلة العلاقات الدولية التي يتمتَّع بها، والتي تبدأ بدعم إقليمي يتمثل خصوصاً في السعودية وتركيا، وبالصفحة الجديدة التي فتحت مع واشنطن بفعل تدخل الرياض، ومن دون تناسي كبار اللاعبين الآخرين.

يستنتج الزائر أنَّ الشرع يعتمد سياسة «سوريا أولاً»، وأنَّه لم يأتِ في مهمة لتغيير المنطقة أو العالم. لغة رجل الدولة لا لغة قادة الفصائل. يتحدَّث تفصيلاً عن الاقتصاد وتوفير بيئة صالحة للاستثمار. يراهن على شراكة مصالح مع العراق ولبنان عبر التكامل الاقتصادي، متناسياً «الجروح» التي أحدثتها في سوريا تدخّلات «الحشد» و«حزب الله».

يتحدَّث الشرع عن تصفير المشاكل مع الجيران. لا يستبعد اتفاقاً أمنياً مع إسرائيل من قماشة اتفاق 1974، أو شيئاً «شبيهاً» به. يُلاحِظ أنَّ الاتفاقات الإبراهيمية عقدت مع دول ليست متاخمة لإسرائيل، وليست لديها أراضٍ محتلة.

يستنتج الزائر أنَّ سوريا الجديدة اختارت «ألا تشكل خطراً على أي من جيرانها»، وهذا يعني خروجها من الشق العسكري في النزاع مع إسرائيل.

يدرك الشرع أنَّ السوريين يجلسون منذ عقود تحت أوجاعهم: الفقر والقهر والظلم. والهجرة والنزوح والخيام. مليون قتيل ومئات آلاف المفقودين و«نجاح كبار الجلادين في الفرار». يعرف أنَّ الوقت يستنزف رهجة البدايات. لكنَّه يراهن على الناس وهو لا يتردد في الذهاب إليهم والاستماع إلى شكاواهم. في اللقاء، بدا الرئيس الأربعيني رجلاً اغتنت تجربته بفعل محطاتِها الصعبة. يتحدَّث بلغة الواقعي الواثق ويراهن على ازدهار سوريا وجاذبية تجربتها لاحقاً. رجلٌ قوي وملامح لاعب إقليمي بارز إذا كتب له أن يجتاز حقولَ الألغام وغابة المشكلات. الاقتصاد مُدمَّرٌ والعلاقاتُ بين المكونات معقدةٌ، ونصائحُ الأصدقاء قد تتناقض.

لا أزعم أنّني أملك بدقة مفاتيح الكتابة عن الرجل الذي فاجأ الداخلَ والخارج. قرأت عنه كثيراً وسألت عنه، لكنَّها المرة الأولى التي أستمع إليه تحت سقف واحد. وعلمتني المهنة أنَّ من الخطأ الوقوع في سحر الأحلام التي يطلقها من بات يمسك بالأختام، وأنَّ بلداننا صعبة وشائكة ومفخخة تقلّص طموح الحاكم الراغب في التغيير. وأنَّ لاعباً اسمُه الماضي ينقض غالباً على لاعب اسمه المستقبل ويدميه، فتمشي البلادُ طويلاً على الزجاج المطحون.

الزمن أستاذ في تقليب الصفحات. توهَّم حافظ الأسد أنَّه اعتقل القصر إلى الأبد. ومع القصر الحزب والشعب، وأنَّه دمغ البلاد والعباد بلونه ولون فريقه، وأنَّه قيَّد حركة الزمن كما تفعل زنزانات صيدنايا بنزلائها، وأنَّه لن يقلق حين يستدعيه التراب. سيحكم سوريا من قبره. عبر أبنائه وأبنائهم. ولا غرابة في الأمر. دمشق، كما بغداد، تسعف حاكمها في التوهم. ربما بسبب موقعها، وربَّما بسبب ثراء تاريخها. لكن نهر الزمان هدار وغدار.

تذكَّرت يوم زرت بغدادَ بعد الطوفان. لم أعثر على السيد الرئيس، ولا على جيشِه، ولا على حزبه، ولا على قبره. سكب الناسُ الغضب على تماثيله. أخرجوه من القصور والكتب، وأرغموا الدينارَ على التبرؤ من صورته. لكَّن الرجلَ الذي أسرف في توزيع المشانق صعدَ إلى مشنقته متحدياً. فسيد بغداد لا يموت على سريره تحت وطأة السنين وتجاعيدِ العمر.

حافظ الأسد حالفه الحظ. لم يأتِ الجيش الأميركي لاقتلاعه، ولم يجرؤ الداخل على ارتكاب مثل هذا الحلم. كانت تجربة حماة راعبة ومريرة. المعارضة تشبه الوقوع في نادي الذئاب. كلُّ من يمارسها مهدّدٌ بالاقتلاع سواء أ كَانَ طفلاً أم حيّاً أم مدينة. أنقذ حافظ سوريا من دوامة الانقلابات. الاستقرار المكلف أعاد سوريا لاعباً، فشعر السيد الرئيس بأنَّه صاحب البلاد ومخترعُها. وحين هجمَ المرض على جسده أودعَ مفاتيح البلاد لدى نجله بشار.

على مدى ربع قرن كان بشار الرجل الواحد والوحيد. لم يصدق أنَّ الرياح الوافدة من إدلب ستتحوَّل سريعاً إلى إعصار يدفعه إلى صقيع المنفى الروسي. طوَى الشرع صفحة الأسدين. فضل بشار الصعود إلى طائرة المنفى. لم يستطِعِ الانتسابَ إلى نادي حافظ وصدام ومعمر وشعاره «القصر أو القبر».

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الرَّجلُ الذي طَوَى «صفحةَ الأسدين» الرَّجلُ الذي طَوَى «صفحةَ الأسدين»



GMT 15:23 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

عفواً سيّدي الجلاد

GMT 15:21 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

الفوسفات والذنيبات والمسؤولية المجتمعية تصل البربيطة

GMT 15:18 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أبو دلامة وجي دي فانس

GMT 15:07 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

العودة إلى إسحق رابين

GMT 14:59 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

من الساحل إلى الأطلسي: طريق التنمية من أجل الاستقرار

GMT 14:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

فضيحة في تل أبيب!

GMT 14:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تفرح بافتتاح المتحف الكبير (1)

GMT 14:42 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

شخص غير مرغوب فيه

نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 10:46 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة
المغرب اليوم - أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 13:31 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط
المغرب اليوم - طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط

GMT 00:22 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

بوتين يؤكد صاروخ بوريفيستنيك يضمن أمن روسيا لعقود
المغرب اليوم - بوتين يؤكد صاروخ بوريفيستنيك يضمن أمن روسيا لعقود

GMT 18:26 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير
المغرب اليوم - بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير

GMT 21:54 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة
المغرب اليوم - تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة

GMT 18:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي
المغرب اليوم - خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي

GMT 01:36 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد حلمي وهند صبري في أول تعاون سينمائي بأضعف خلقه
المغرب اليوم - أحمد حلمي وهند صبري في أول تعاون سينمائي بأضعف خلقه

GMT 20:20 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

4 أصوات تشير إلى أعطال في محركات السيارات

GMT 06:27 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

دراسة تؤكّد تأثير حجم المخ على التحكّم في النفس

GMT 21:07 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

"سباق الدراجات" يدعم ترشح المغرب للمونديال

GMT 01:40 2018 السبت ,10 آذار/ مارس

رجل يشكو زوجته لسوء سلوكها في طنجة

GMT 05:32 2017 الأربعاء ,03 أيار / مايو

محمود عباس فى البيت الأبيض.. من دون فلسطين!

GMT 06:27 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

باكستان تُبعد صاحبة صورة ناشيونال جيوغرافيك الشهيرة

GMT 04:19 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

"فرزاتشي Versaci" تطلق مجموعتها الساحرة لعام 2017

GMT 07:02 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

فيلم الرعب الأميركي "Happy Death Day" الأول على شباك التذاكر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib