الغوص في الرمال الناعمة

الغوص في الرمال الناعمة

المغرب اليوم -

الغوص في الرمال الناعمة

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

استيقظت ذات صباح خلال الفترة الأخيرة، فوجدت نفسى غارقًا فى سلسلة من التساؤلات والأسئلة القادمة من كل حدب وصوب إعلامى ممتد من الصحافة إلى التلفزيون إلى شبكات التواصل الاجتماعى؛ جميعها تخص الحديث الذى جرى بين الرئيس جمال عبدالناصر والرئيس معمر القذافى فى ٤ أغسطس ١٩٧٠. كان ذلك قبل شهر ونصف الشهر تقريبًا من وفاة الرئيس الخالد فى ٢٨ سبتمبر من نفس العام، حيث كانت له جنازة غير مسبوقة فى التاريخ الإنسانى.

المشهد لم يكن جديدًا على مصر، فقد خرجت الملايين من المصريين تطالب القائد بالبقاء فى منصبه لأنه كان أحكم الاختيارات فى لحظة عصيبة أن يقودها مَن يقوم بالمراجعة ومن بعدها يدير الصراع التاريخى مع إسرائيل بما يكفل النصر أو يقود إليه.

كان من الصعب تصور أن أيًّا من الاختيارات البديلة، والمتاحة فى ذلك الوقت- مثل السيدين شمس بدران وزكريا محيى الدين- سوف يكون لديه الرصيد الذى يستوعب آلام اللحظة ويقود الأمة إلى طريق لا تحكمه المغامرات القومية ولا الكلمات الحماسية، وإنما التعامل مع الواقع من منطلقات الدولة الوطنية ومصالحها.

الرئيس الليبى الآخر عاش على الكلمات الحماسية، ومحاولات وحدوية كسيحة بدأت عربية وانتهت إفريقية، وانتهى به الأمر مقتولًا فى مصارف عمومية. لحظة الحديث كانت حرجة بعد حرب الاستنزاف والاستعداد لما سوف يأتى بعدها من حرب أكتوبر، التى فيها يقوم حائط الصواريخ، ويكمن إعطاء الوقت اللازم للقوات المسلحة الباسلة لكى تستوعب بالتدريب والعرق والدماء أحيانًا التغيير الكبير لدخول خريجى الجامعات المصرية إليها مع الأسلحة الحديثة.

أصداء الحديث الحالية يعرفها مَن عاشوا هذا الزمن، الذى راجعت فيه مصر نفسها وخرجت من جحيم «النكسة» الحار أكثر نضجًا وصلابة وظهر ذلك من رفض الاختيار الذائع وقتها- كما هو الآن- ما بين الاستسلام أو الانتحار. بزغت السياسة وقتها من مكمنها لكى تعيد تركيب المصالح المصرية على ضوء الموقف المحزن المسيطر بحيث تحدد الممكن، وهو «إزالة آثار العدوان» و«استعادة الأراضى المصرية المحتلة».

تحقيق ذلك يبدأ من نقطة إعادة بناء القوات المسلحة؛ ومعها إعادة بناء الاستراتيجية المصرية، التى تعطى مضمونًا صلبًا للمقاومة التى سوف تقوم بها مصر حيث الصلابة لا تعنى تسجيل موقف وإنما تغييره.

حرب الاستنزاف وقتها دفعت الولايات المتحدة إلى تقديم مبادرة- وليس حلًّا- لفتح باب النظر والتفاوض لحل أزمة الشرق الأوسط عُرفت باسم وزير الخارجية وقتها، ويليام روجرز، والتى طغى عليها انخراطها فى الحرب الفيتنامية. هنا فإن مصر لم تعد تقبل المهزلة العربية الذائعة بتسجيل الموقف بأكثر الكلمات سخونة، والمطالب مزايدة. أصبحت القاهرة تعرف أن القضية هى تغيير الموقف وليس تسجيله، وبأفعال وليس أقوالًا، وبقبول عالمى وليس عزلة دولية.

باختصار فإن هزيمة يونيو بقدر ما كان فيها من خسائر كبرى، فإنها كانت الطريق إلى حالة من النضج الاستراتيجى المصرى الذى لا يزال معها حتى الآن.

العقود الماضية منذ ذلك الحديث شهدت المواجهة مع فكر عربى لا يزال- للأسف- متواجدًا فى الحياة السياسية العربية لا يبالى بالمصالح المصرية فى حماية أمنها القومى؛ وفى صيانة أحلام شعب عظيم فى العيش والكرامة.

المدرسة الفكرية العربية التى تناصفها أنصار القومية العربية، وأنصار القومية الإسلامية؛ قامت على تحميل مصر أحمالًا ثقيلة لخصها الرئيس جمال عبدالناصر فى حديثه لمعمر القذافى بأن تكون كمَن «ألقوه فى الْيَمّ وطالبوه ألّا يَبْتَلَّ بالماء»!، وفى الوقت الذى كان فيه الرئيس السورى حافظ الأسد ينادى بتحقيق تكافؤ استراتيجى مع إسرائيل، فإنه كان على استعداد للعداء مع طرف بعثى عربى آخر فى العراق؛ وأن يدفعا معًا لطرد مصر من الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامى.

كانت التقاليد السياسية العربية تقوم على المزايدة، التى تشبه مَن يقعون فى بحر الرمال الناعمة، التى كلما زادت حركة الكلمات فيها يغوصون داخل الرمال المميتة. فى ذلك الوقت شهدت الجامعات المصرية لأول مرة مشهدًا بائسًا للقدرة الفائقة على تجاهل الفارق الهائل ما بين المطالب والأهداف الاستراتيجية والإمكانيات والقدرات المتاحة، بينما يتم بفعل المزايدة الانقسام العميق ما بين فتح والجبهة الشعبية وهذه الأخيرة والجبهة الديمقراطية، وهؤلاء جميعًا وحماس وهذه والجهاد الإسلامى.

لا يوجد مشهد صارخ الآن مثل ذلك الموقف الذى قامت به حماس فى خطواتها لتحرير فلسطين أن تبدأ بفصل قطاع غزة عن الضفة الغربية فى عام ٢٠٠٧، وتبدأ بعد ذلك الطريق إلى خمس حروب مع إسرائيل.

المفارقة التى لا تقل فداحة هى أنه فى زمن السعى نحو تحرير القدس جرى أولًا اختراق الحدود المصرية بالأنفاق التى يتنقل فيها الإرهابيون يقتلون المصريين فى ناحية؛ بينما يتلقون التدريب والتمويل فى ناحية أخرى.

الغريب أنه فى مقابلة جرت مع رئيس حماس، إسماعيل هنية، فى صحيفة المصرى اليوم الغراء سألت الرجل عن حقيقة الأنفاق، فأجاب أنه «نفق واحد فقط لا غير»!. كان ذلك كذبًا بواحًا عرفه المصريون إبان «ثورة يناير ٢٠١١» عندما تدفقت العناصر المسلحة لحماس وحزب الله لكى تشعل حربًا إرهابية فى مصر. كل ذلك جرى وسط حرب إعلامية لا تقل سخونة عن تلك التى تجرى اليوم عند التعليق على موقف الرئيس جمال عبدالناصر الذى اخترق ضباب الكلمات ملاحظًا أن العراق يريد حربًا، بينما موازنته لا تزيد على ٧٠ مليون جنيه؛ وفيما بعد فإن العراق خاض حربًا ليس لتحرير فلسطين وإنما لاحتلال الكويت.

ما لا يبدو شائعًا فى الجماعة السياسية العربية الحنجورية أى معرفة بقواعد «المقاومة» كونها تقوم على استراتيجية للتحرير وليس فقط «الإيذاء» للخصوم، وإنما خوض الطريق البائس نحو الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطينى، وهو الذى سارت فيه حماس وأتباعها خلال أربع حروب. وجاءت الخامسة فى وقت كانت فيه العلاقة بين حماس وحكومة نتنياهو غارقة فى عسل الأموال القادمة من قطر للعون ومعها الكهرباء والغاز وامتيازات صيد السمك فى البحر المتوسط.

الأولوية أحيانًا كانت معطاة لتعميق التقسيم والانقسام بين الفلسطينيين، ودعم الانقسام فى دول عربية أخرى، فتصبح لبنان دولة «معطلة» من ثلث «حزب الله»؛ وسوريا تصبح رخوة إلى الدرجة التى تتيح لإسرائيل تدمير قوتها المسلحة مع احتلال الجنوب بأكمله، والعراق تصبح واقعة تحت ابتزاز قوات الحشد الشعبى، بينما اليمن تنقسم إلى ثلاث دول بين الحكومة الحوثية والأخرى والثانية الشرعية والثالثة الجنوبية.

الهجمة على الموقف المصرى للرئيس جمال عبدالناصر من فصائل متعددة داخل شبكات التواصل الاجتماعى وخارجها ترجمة لتاريخ طويل من الفكر الفاسد الذى لم يعرف النضج الذى يجعل «المقاومة» طريقًا للتحرير الذى يقوم على حسابات دقيقة وعميقة لتغيير البيئة السياسية والتفاوضية مع الخصم الإسرائيلى تكون فيها صلابة الوحدة قائمة؛ وكسب الحلفاء عربًا وأجانب زائدًا.

الرئيس عبدالناصر كان يدافع عن مصر، ويساعد بالعون من أجل فلسطين وليس الغوص فى رمال ناعمة!.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الغوص في الرمال الناعمة الغوص في الرمال الناعمة



GMT 10:14 2025 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

«أوراقي 9».. محمود الشريف الدور 9 شقة 4!

GMT 10:11 2025 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

متغيرات دمشق

GMT 10:10 2025 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

الشرع من موسكو إلى واشنطن

GMT 10:09 2025 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أما آن للمغرب العربي أن يتعافى؟

GMT 10:08 2025 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

الجهل قوّة يا سِتّ إليزابيث

GMT 10:07 2025 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

الانتخابات الأميركية: هل سيشكر ترمب ممداني؟

GMT 10:05 2025 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

«حزب الله» في بيانين

GMT 10:04 2025 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

ليس كَمَنْ سمع

نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 22:48 2025 الخميس ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة
المغرب اليوم - إقبال تاريخي على المتحف الكبير في مصر مع زيارات غير مسبوقة

GMT 02:59 2025 الجمعة ,07 تشرين الثاني / نوفمبر

أحلام تشعل مواقع التواصل بنصيحة غير متوقعة للزوجات
المغرب اليوم - أحلام تشعل مواقع التواصل بنصيحة غير متوقعة للزوجات

GMT 16:11 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

تثق بنفسك وتشرق بجاذبية شديدة

GMT 12:58 2019 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الشمامي يتراجع عن الاستقالة من الجيش الملكي

GMT 15:14 2019 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

تفاصيل مشروع قانون المالية المغربي لسنة 2020

GMT 17:38 2018 الأحد ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

حيوان المولوخ الأسترالي يشرب الماء عن طريق الرمال الرطبة

GMT 13:15 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

سعد الصغير يعلن عن قلقه من الغناء وراء الراقصات

GMT 12:18 2012 الأربعاء ,27 حزيران / يونيو

جهود دولية لمكافحة الجرائم الإلكترونية

GMT 13:15 2012 الأحد ,02 كانون الأول / ديسمبر

لكل زمن نسائه

GMT 15:54 2015 الإثنين ,06 تموز / يوليو

متأسلمون يستدرجون يستعملون وبعد ذلك يسحقون

GMT 15:10 2013 الإثنين ,28 كانون الثاني / يناير

ما صدر في قضية بورسعيد قرار والحكم 9 مارس
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib