بقلم - عبد المنعم سعيد
لم تبلغ القلوب الحناجر فقط بشأن غزة وما يحدث فيها من قهر وجوع وعنت؛ ولم تتراكم فحسب بياناتُ العالم التي ترفض وتستنكر، من قِبل الدول والمنظمات الدولية وسكرتير عام الأمم المتحدة، ما يجري في غزة بأشد الألفاظ وأكثرها حدةً، بشأن الجرائم التي ترتكبها إسرائيل. فاض حبر الصحافة العالمية، والقول والمشاهد على الشاشات في نشرات الأخبار والبرامج في تفاصيل ما يحدث، واقتربت الكاميرات من أطفال جائعين، وبعضهم الآخر مستلقٍ، يدل بروز العظام فيهم على الحاجة لصلاة مودع. لم يبق شيء لم يقل، ولا مشهد لم يُرَ، ولم يكن صعباً استدعاء التاريخ الذي عانت فيه المعسكرات النازية من ذات المشاهد؛ ولا التاريخ الذي أقسمت فيه البشرية على ألا يحدث ذلك مرة أخرى. والمذهل أن صيحة «Never Again» كانت صرخة يهودية؛ ولكن سخرية القدر جاءت بما يرتكبه الإسرائيليون في غزة؛ وبعضهم يرى ما يجري أمراً ضرورياً لتحقيق النصر، وفتح الأبواب لطرد الفلسطينيين من أرضهم وأرض أجدادهم، وبعضهم الآخر المصاب بحسرة يصدر بيانات تضاف إلى البيانات الأخرى.
أصل المسألة أن القانون الأساسي للصراع العربي/الفلسطيني - الإسرائيلي منذ بداية القرن العشرين قام على فرض الحقائق على الأرض؛ فكانت موجات الهجرة اليهودية من كل أركان العالم المعادية للسامية اليهودية وحضورها للاستيطان في فلسطين. القصة اختلطت بالكثير من الدين والرموز التاريخية، حتى جرى ما جرى اعتباراً من عام 1948 وحتى الآن؛ حيث حرب غزة الخامسة التي بدأ الدفع فيها من أجل إجلاء الفلسطينيين ليس عن غزة فقط وإنما ما أمكن من الضفة الغربية. كان الأمر الواقع الوحيد الذي نجح فيه الفلسطينيون هو بقاء أكثر من سبعة ملايين فلسطيني بين نهر الأردن والبحر المتوسط، موزعين بين غزة والضفة الغربية، والبقية من حاملي الجنسية الإسرائيلية ومن المواطنين ناقصي الحقوق المدنية والسياسية. وتحت قيادة نتنياهو ونمو اليمين الإسرائيلي الديني أصبح الهدف الإسرائيلي هو خلق أمر واقع جديد يقوم على إجلاء الفلسطينيين؛ والنافذة هي حرب غزة الخامسة التي أتاحتها «حماس» لإسرائيل، وهي فرصة طرد أكبر عدد من خلال معسكرات اعتقال وإتاحة الخروج إلى دول أخرى. المواجهة الحالية شكَّلت هزيمة كبيرة ليس فقط لـ«حماس»، التي لم يكن لديها أي استراتيجية للمقاومة، وإنما نوبة من الإيذاء لإسرائيل، بدأت في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ومن وقتها بدأت عمليات النزيف الفلسطيني الذي لم تحمه لا «حماس» ولا معسكر المقاومة والممانعة الذي شمل ميليشيات الشرق الأوسط. الآن فإن المهمة العربية الرئيسية هي منع المجزرة الحالية من الاستمرار، والوقوف في وجه معسكرات الاعتقال والتجهيز للتطهير العرقي المتابع له؛ وحيث إن الآن لم يعد يتحمّل ما هو أكثر من أوراق وبيانات الإدانة والشجب، وإنما العمل السياسي الذي يُحقق وقف إطلاق النار، ويدخل المساعدات الإنسانية لتثبيت الفلسطينيين على أرضهم. مثل هذه الخطوة تعتمد على إسرائيل، التي تُريد إبقاء الحال على ما هو عليه، وإنما المهمة تقع أكثر على أكتاف «حماس» التي تشهد أن كل يوم يمضي من دون دخول قوافل الإغاثة، أو ما يكفي منها يعني سقوط ما بين 100 و150 فلسطينياً من الرصاص أو من الجوع. ولمّا كان من الواضح أن السلطة الوطنية الفلسطينية غير قادرة على إدارة الشأن الفلسطيني في قطاع غزة، وأن المفاوضات تسير من خلال «حماس»، فإن الدول العربية والجامعة العربية عليهما مطالبة «حماس» بالإفراج عن الرهائن الإسرائيليين، ووضع حد للعمليات العسكرية الجارية، وإعادة الأمر إلى سلطة فلسطينية تُجيزها القيادة في رام الله. للأسف الشديد فإنه رغم الجهد الذي قامت به الدول العربية في إجازة المشروع المصري لتعمير غزة من دون خروج أهل غزة منها؛ والذي أحبط مبادرة التهجير القسري الأميركية - الإسرائيلية الأولى؛ فإنه للأسف أبقى فراغاً شديداً عندما جرى تجنب الحديث عن مستقبل «حماس» في القطاع. الآن حانت اللحظة لمبادرة عربية شاملة، تكون بدايتها إزاحة «حماس» أو نزع الشرعية عنها، ونزع السلاح عنها وتسليمه للسلطة الفلسطينية، كما هو جارٍ الآن في المنطقة عند التعامل مع كل الميليشيات الكردية والسورية واللبنانية.
«المبادرة العربية» سوف تضع المنطقة على طريق الاستقرار، وتفتح أبواباً مرة أخرى لمسيرة سلام تخرج من رحم الحرب الضروس الجارية التي عقَّدت القضية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى، وتُجنب حروباً إقليمية تهدد المنطقة كلها بجحيم لا قبل لها به.