إنها الجغرافيا أيها السادة

إنها الجغرافيا أيها السادة

المغرب اليوم -

إنها الجغرافيا أيها السادة

حسين شبكشي
بقلم - حسين شبكشي

مع الحديث السياسي عن حدود إسرائيل «الضيقة والصغيرة عليها» والتي لا بد لها أن «تتوسع»، ومع التصريحات بتغيير أسماء بحار وخلجان، وحق استحواذ دول على دول أخرى، وقدرة دول على الاستحواذ على ممرات مائية دولية... يعود الحديث مجدداً عن أهمية الجغرافيا ودورها الخفي في صناعة القرار السياسي والتاريخ نفسه. هناك مقولة تاريخية تُنسب للإمبراطور الفرنسي وقائدها العسكري الأشهر نابليون بونابرت يقول فيها: «الجغرافيا الطبيعية هي المؤشر الحاكم الأساسي غير المتغير في التاريخ، وإذا أردت أن تعرف السياسة الخارجية لأي بلد فعليك أن تعرف جغرافيته». وهو إلى حدٍّ ما المعنى نفسه الذي مال إليه رئيس الوزراء البريطاني الأشهر ونستون تشرشل الذي قال: «التاريخ تصنعه الجغرافيا السياسية».

منذ نهاية حقبة التسعينات من القرن الماضي انتشرت دعوات «نهاية الجغرافيا»، والتي جاءت بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوفياتي وانطلاق العولمة، وبالتالي فتحت معها الأسواق والحدود ونهاية السيادة الوطنية للأمم. وبعد الحرب الباردة ظهرت خرائط جديدة في أوروبا وغيرها، وبرزت قوى صاعدة مهمة في الشرق الأقصى، وزاد الاهتمام والوعي بالأرض والمناخ والكيانات.

يقول الكاتب البريطاني تيم مارشال في كتابه المهم «سجناء الجغرافيا»: «إن الاتحاد الأوروبي تم تأسيسه لكي يمكن ألمانيا وفرنسا من احتضان بعضهما بقوة، بحيث لا تكون لديهما الإمكانية ولا الفرصة لتحرير أي من أيديهما للكم الأخرى».

أعطى المؤرخون أهمية شديدة لعوامل الجغرافيا في صناعة الحرب والسلام. وتبعهم بعد ذلك علماء الاقتصاد والديمغرافيا ليشيروا إلى الجغرافيا كعنصر أساسي وحيوي لتوازن التنمية والرفاهية. كان التقييم الجغرافي الأساسي الذي وضعه مؤسس علم الاقتصاد آدم سميث هو المعيار الأهم على امتداد القرون الثلاثة الماضية. وضع سميث تكلفة النقل، وحجم الأسواق، وأهمية السكان، والوصول إلى بلدان الساحل... من بين العوامل المؤثرة في ازدهار المبادلات التجارية.

وتتبعت هذا النهج بشكل حرفي عجلات آلة الرأسمالية؛ فخلال قرنين من الزمن انتقل ثقل الاقتصاد الدولي من حوض المتوسط إلى الحوض الأطلسي، ثم الآن إلى الحوض الهادئ. ولا يمكن التقليل من هجمات البر على البحر، وما حصل من ربط قناة السويس المحيط الهندي بالمحيط الأطلسي، لتأتي قناة بنما بعد ذلك لتربط بين المحيطين الهادئ والأطلسي، ويحصل التغيير السياسي والاقتصادي الكبير مع ذلك.

يقول الكاتب الأميركي الشهير روبرت كابلان في كتابه المثير «انتقام الجغرافيا»: «إن أوروبا هي محيط من الأراضي، أما شرق آسيا فهي محيط من البحار. وهذا هو الفارق الأهم في جيو-سياسية القرن العشرين مقارنة مع القرن الحادي والعشرين».

لفترة غير بسيطة من الزمن حاول خبراء التنمية في البنك الدولي الابتعاد تماماً عن البحث عن تأثير العنصر الجغرافي في المجال التنموي، ولكن بعد حقبة من التجاهل جاء الإقرار الصريح بذلك؛ ففي تقرير لافت لمعهد هارفارد للتنمية، من إعداد الباحثين الأميركيين جيفري ساكس وجون لوك غلوب، شدد فيه الباحثان على صحة ما آل إليه قديماً آدم سميث، وهو أن الجغرافيا تبقى العامل الأهم لازدهار أو انحدار أي دولة حتى أصبحت أشبه بلعنة لواحدة وهِبة لأخرى.

إن من يقلل من أهمية ذلك الأمر أو يشكك في صحته فقط عليه أن يتأمل جلياً ويحدق بقوة في الخريطة الجغرافية التي توضح بيانات لمعدلات الدخل الفردي في كافة دول العالم؛ فمنذ الوهلة الأولى يمكن الانتباه إلى ملاحظة لافتة ومهمة للغاية، مفادها أن البلدان التي تقع في مدارَي السرطان والجدي يمكن وصفها بأنها أكثر الدول فقراً واحتياجاً وبؤساً، في حين توجد الدول ذات المداخيل المرتفعة على خطوط عرض متوسطة أو مرتفعة. وهذا يفسر أهمية المناخ وتأثيره، والذي يقدم الأمطار والأنهار والبحيرات والغابات والزراعة والري والغذاء والماء والصحة للشعوب، ويعقب ذلك الإبداع والثقافة والقدرة والإمكانية على شن الحرب وغزو الأسواق. وبالنسبة للموقع، فإن الاقتصاد الساحلي، وهو المصطلح المستخدم للبلدان التي لها منافذ على البحار، يتيح بشكل عام دخلاً أفضل وأعلى من البلدان المغلقة التي لا تمتلك منافذ بحرية أو سواحل. حقيقي أن من لديه المناخ المعتدل والممطر مع سواحل ومنافذ بحرية، بالإضافة إلى خريطة ديمغرافية متطورة إلى حدٍّ ما، هو الذي يستطيع التأهل باستحقاق إلى سباق القوة في العالم. ولذلك يمكن فهم مراكز القوى الثلاثة الأساسية في العالم اليوم، وهي أوروبا وجنوب شرقي آسيا وأميركا، تلحقهم كندا وأستراليا، والتي فرضت نفسها كالأقطاب الاقتصادية الكبرى.

واليوم هناك شهية واضحة لإعادة رسم الخرائط وتغيير الأوضاع لفرض واقع جديد، لتعود الجغرافيا إلى الواجهة مجدداً كمحرك ومؤثر وصانع للقرار السياسي والاقتصادي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إنها الجغرافيا أيها السادة إنها الجغرافيا أيها السادة



GMT 23:14 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

ذاكرة الرجل الصامت

GMT 23:12 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

إسرائيل... لماذا تفوَّقت في لبنان وليس في اليمن؟

GMT 23:10 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

مشهد الشرق الجديد... من يرسمه؟

GMT 23:07 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

سبب آخر للاستقالة

GMT 23:05 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

البديل الحوثي للبنان...

GMT 23:04 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

التجويع بهدف التركيع

GMT 23:02 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

إلى متى ستعيش إسرائيل في رعب وتوجُّس؟

GMT 23:00 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

ماذا لو رد «الجميل» السلام؟!

أمينة خليل تتألق بفستان زفاف ملكي يعكس أنوثة ناعمة وأناقة خالدة

القاهرة - سعيد الفرماوي

GMT 18:02 2019 الثلاثاء ,27 آب / أغسطس

طاليب يغير البرنامج التدريبي للجيش الملكي

GMT 03:11 2019 الإثنين ,08 تموز / يوليو

طريقة تحضير الأرز الأبيض بأسلوب بسيط

GMT 21:58 2019 الثلاثاء ,18 حزيران / يونيو

فساتين صيف تزيد من تميز إطلالتك من "ريزورت 2020"

GMT 07:30 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

ظافر العابدين يكشف أسباب وقف تصوير فيلم "أوف روود"

GMT 11:52 2018 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الإمارات تصدر قانون جديد للمصرف المركزي والأنشطة المالية

GMT 18:34 2018 الخميس ,18 تشرين الأول / أكتوبر

سُلطات مليلية تبحث عن عائلة طفل قاصر مُصاب بمرض خطير

GMT 16:40 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

جزيرة "أرواد" السورية تكشف نظرية جديدة بشأن سفينة نوح

GMT 12:05 2018 الإثنين ,28 أيار / مايو

ميسي يعلن أنه لن يلعب لأي فريق أخر في أوروبا

GMT 13:40 2018 الخميس ,01 آذار/ مارس

الرجاء يخوض منافسات كأس الكاف بقميص جديد

GMT 14:23 2018 الأربعاء ,03 كانون الثاني / يناير

الوردي والذهبي مع الباستيل آخر صيحات موضة 2018
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib