المسلمون أولاً ليس الإسلام

المسلمون أولاً... ليس الإسلام

المغرب اليوم -

المسلمون أولاً ليس الإسلام

نديم قطيش
نديم قطيش

ما ينبغي أن يعنينا، في العالم الإسلامي، من المعركة المندلعة حول إعادة نشر رسوم كاريكاتور تتناول نبي المسلمين محمد، أبعد بكثير عمّا قد يعني غيرنا حول العالم.

فهذه فيما يعنينا، ليست معركة حول الحريات، بالمعنى المطلق للكلمة، وإن كان جانب منها كذلك. وهي ليست، فيما يعنينا كأولوية، معركة داخل الفضاء الثقافي العلماني وسجالاته البينية حول حدود الحريات، وهذا نقاش واسع داخل الأدبيات العلمانية، يساراً ويميناً، يتلون بألوان العلمانية المختلفة داخل أوروبا وبالمقارنة بين أوروبا وأميركا. وقد لفتتني كثرة الأصوات التي باتت تضع تحت المجهر «أصولية» العلمانية الفرنسية، وتفسيراتها «المتطرفة» لشؤون الحرية والعلمانية التي تكاد تختصر جوهر العلمانية بالحق في التجديف كحق دستوري للمواطن الفرنسي.
وهذا حق يُساء فهمه في العالم العربي والإسلامي، ما دام المتلقي لا يفهم أن القانون الفرنسي يضع حداً فاصلاً بين الإيمان والمؤمن. للفرنسي الحق في أي موقف تجديفي من كل العقائد والأفكار، ما دام لا يميّز ضد معتنقيها.

الجمهورية التي تتيح لك الحق في أن ترفض الإسلام تُلزمك بواجب احترام الحقوق الدستورية للمسلمين. المثال الفاقع على ذلك أنه بوسع «شارلي إيبدو» رسم ما تشاء عن الإسلام أو أي معتقد ديني أو مدني آخر، وليس بوسعها أن ترفض توظيف مواطن فرنسي لأنه مسلم.

صِلاتنا بهذه العناوين أكيدة، كنخب وحكومات وإعلام، وإن اختلفت في ترتيبها على سلم الأولويات بين بيئة وأخرى.

بيد أن ما به يجب أن ننشغل، أن الدائر حول «شارلي إيبدو» ورسومها، هو معركة تتداخل في طياتها معارك سياسية وثقافية وقيمية وإعلامية وتعبوية مندلعة داخل العالم الإسلامي نفسه، بجميل المجلة الفرنسية وبلا جميلها.

فليس من باب الصدفة أن قادة مشروع «الإخوان المسلمين»، وجدوا في القضية مادة لتعزيز مشروعيتهم السياسية وتوسعة حضورهم في وجدان العالم الإسلامي، بالإكثار من صب الزيت على نار هذه القضية.

تصدّر الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مشهد «النخوة الإسلامية» للدفاع عن كرامة نبي المسلمين محمد، ولحق به لفيف إخواني عريض، وصل في ذروة انحطاطه الثقافي والفكري إلى تصريح رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد، بأنه من «حق المسلمين قتل ملايين الفرنسيين». وإذ أوضح مهاتير تصريحه الرث هذا، أنبأنا بأن هذا حق معطَّل بقوة أن «المسلمين بشكل عام لم يعتمدوا قانون العين بالعين»!

تصدُّر «الإخوان المسلمين» لهذه المعركة، هو امتداد لمعركة ثقافية وقانونية وأخلاقية داخل العالم الإسلامي، بين مشروع الإسلام السياسي ومشروع الدول الوطنية، أي بين منظومتي الدستور والفقه.

قبل سنتين أو أكثر قال الأمير محمد بن سلمان في إحدى مقابلاته إن الإسلام رافد من روافد الهوية السعودية، وهذا كلام يكاد يكون التعبير الأوضح عن الخيار الاستراتيجي لهوية وشخصية ما باتت تُسمى الدولة السعودية الرابعة. وتحدث الأمير محمد في أكثر من مناسبة عن مصالحة الهوية الإسلامية ودمجها في العالم.

وفي أبوظبي استضاف الشيخ محمد بن زايد في فبراير (شباط) 2019، المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية، الذي وضع نصب عينيه التصدي للتطرف الفكري وتعزيز العلاقات الإنسانية وإرساء قواعد جديدة لها بين أهل الأديان والمعتقدات المتعددة، تقوم على احترام الاختلاف. وقد صدر عن المؤتمر التاريخي «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» التي وقّع عليها الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، والبابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، في دولة الإمارات.

العالمية الكوزموبوليتية التي تنطوي عليها مثل هذه الدعوات، والتخفف من وطأة الفقه ومنظومة الأحكام الدينية المباشرة في الشأن العام وإدارة العلاقات الإنسانية وحوار الهويات، لصالح القوانين الوضعية ورحابة الهوية الإنسانية، يجد فيه غلاة المسلمين ابتعاداً عن «الإسلام الصحيح» كما يجد فيه غلاة المسيحيين ابتعاداً مماثلاً.

فالكنيسة الكاثوليكية، بقيادة البابا فرنسيس، البابا الأول من خارج أوروبا منذ 1200 سنة، تواجه حرباً عقائدية ضروساً تُخاض ضدها من داخلها، بزعامة تيارات وأساقفة وكرادلة لا يتورعون عن اتهام الفاتيكان بالتآمر على الكاثوليكية وتحويلها إلى عقيدة معاصرة هجينة تختلط فيها الاشتراكية بالعولمة بالنسوية بالنشاطية البيئية (سينودوس الأمازون مثالاً)... وقد كان آخر مواقف الكنيسة المتسامحة حيال المثليين صاعقة من تلك الصواعق التي أجّجت الحرب الثقافية داخل المسيحية.

الصراع على مفهوم «الإسلام الصحيح» لا يبتعد كثيراً عن الصراع على مفهوم «المسيحية الصحيحة»، ولا يخلو الصراعان من أبعاد سياسية تتوسل الديني لصالح السياسي والسلطوي، وآخر أمثلة ذلك الانتخابات الأميركية التي تحولت في قسم منها، بشكل شديد المفارقة، إلى حرب على من له أحقية تمثيل جوهر الكاثوليكية. يزداد ذلك استفحالاً في لحظة اشتعال هواجس الهويات في العالم نتيجة قصور المؤسسات السياسية والحكومات عن سداد الحاجات المادية والخدماتية والنفسية للمواطنين في ظل احتقان الأزمات الاقتصادية (انهيار عام 2008) وشيخوخة الديمقراطية (تزايد الديمقراطيات التي تعاني من عجز الأكثريات الشعبية عن الحكم بسبب جمود قوانين الانتخاب) ووباء «كورونا»...

بيد أن هذا الصراع أكثر خطورة وإلحاحاً داخل الإسلام منه داخل المسيحية، بسبب ضعف المؤسسات عامة وهشاشة الشرعيات الدستورية، والإرث المشوّش للعلاقة بين الإسلام والسياسة، في مقابل قوة المؤسسات في الغرب ومتانة الشرعيات الدستورية والجذور العميقة لقيم الفردية والمواطنة والدستور والقانون.

مسؤولية النخب والحكومات نقل الصراع من الصراع الوهمي على ما يسمى «الإسلام الصحيح» إلى الصراع على تعيين المصالح الواقعية للمسلمين، كمواطنين في دول، ودول تتفاعل مع كون كامل من المختلفين...

وهنا لا بد من السؤال: إذا كانت «القاعدة» و«داعش» و«النصرة» و«الجهاد» و«حماس» و«الإخوان» و«حزب الله» و«بوكو حرام» وعشرات الميليشيات الشيعية وحكومة الشباب وغيرهم، وكل هؤلاء لا يمثلون الإسلام الصحيح... فمَن، وما هو الإسلام الصحيح؟! مفاهيم الإسلام وعاء فسيح جداً لها ما لها وعليها ما عليها، وآخر ما تعوزه هذه المنطقة هو الصراع على التاريخ ومدارس الفقه وتاريخ النزول والفتح الإسلامي ومصائر بني قريظة ورحلات الشتاء والصيف...

نحتاج إلى نقاش من داخل الإسلام يبدأ وينتهي بمصالح المسلمين وموقع المسلمين وعلاقات المسلمين كأفراد وكجماعة على قواعد الحقوق والمواطنة والدستور.
أما الإسلام، فيكفي أن يؤمن المسلمون بأنه له رب يحميه، ليُسقطوا عن كاهلهم مهمة الدفاع عن الإسلام وكتابه ورسوله، ويتركوا ما لله لله.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المسلمون أولاً ليس الإسلام المسلمون أولاً ليس الإسلام



GMT 14:25 2025 الأربعاء ,27 آب / أغسطس

الصحيفة.. والوزير

GMT 19:42 2025 الأحد ,17 آب / أغسطس

إنذار جريمة طريق الواحات!

GMT 15:53 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

خريطة سعدون حمادي

GMT 15:34 2025 الإثنين ,04 آب / أغسطس

مصر للطيران!

GMT 20:44 2025 السبت ,19 تموز / يوليو

الطعن على الوجود

أحلام تتألق بإطلالة ملكية فاخرة باللون البنفسجي في حفلها بموسم جدة

جدة - المغرب اليوم

GMT 01:04 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مشروب "كافي توبا" الحلال يحارب بطالة السنغال

GMT 17:36 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

التراس الرجاء البيضاوي تهاجم سعيد حسبان وتصفه بالخبيث

GMT 15:44 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

الفيلا صديقة البيئة المكان المناسب لقضاء العطلة

GMT 09:02 2015 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

مليون زهرة شتوية تزين شوارع عنيزة في المملكة السعودية

GMT 03:18 2017 الإثنين ,23 تشرين الأول / أكتوبر

عرض الفيلم المغربي "عمي" خلال مهرجان "مشاهد عربية" في واشنطن

GMT 06:35 2017 الجمعة ,27 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين "أرامكو" و"غانفور" لشراء فرضة "ماسفلاكت" للنفط

GMT 19:03 2024 الأربعاء ,31 كانون الثاني / يناير

الوداد ينجّح في رفع عقوبة المنع من الفيفا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib