العراق يهيئ نفسه لمرحلة ما بعد الاتفاق الأميركي - الإيراني المتوقع التوصل إليه أو لمرحلة العجز عن التوصل إلى مثل هذا الاتفاق مع ما سيثيره ذلك من توترات إقليمية على كلّ صعيد.
في ضوء التطورات ذات الطابع الخطير التي تمرّ فيها المنطقة، لا يمكن للعراق الوقوف موقف المتفرج حيال ما يدور حوله. ليس طبيعيا بقاء هذا البلد المهم في المنطقة تحت الهيمنة الإيرانية كما هو حاصل في الوقت الحاضر مع وجود جيش وطني عراقي من جهة وميليشيات “الحشد الشعبي” التي تعكس رغبة إيرانية في نقل تجربة “الحرس الثوري” إلى العراق.
ثمة ما يتحرّك في العراق. تشير خطوتان، بين خطوات أخرى، إلى سعي عراقي إلى موقف متوازن بين الدول العربيّة، خصوصا تلك المجاورة للعراق، من جهة و”الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانية من جهة أخرى. ليس واضحا ما إذا كان هذا التوجه سيستمرّ أم أنّه مرتبط بالضغوط الأميركية التي تمارس حاليا على إيران والعراق في الوقت ذاته، كذلك بضرورة تهيئة الظروف لانعقاد القمة العربية المقبلة في بغداد في السابع عشر من أيّار – مايو المقبل. بكلام أوضح هل هذا التحرك موسمي أم أنّه يصب في إيجاد وضع جديد مختلف يؤكد أن العراق هو العراق وأنّ إيران هي إيران.
تتمثل الخطوة الأولى التي يمكن أن تعني الكثير على الصعيد العراقي في تراجع بغداد، عبر رئيس الجمهورية عبداللطيف رشيد ورئيس الحكومة محمّد شياع السوداني عن الموقف المتشنج من ترسيم الحدود مع الكويت. تتمثل الخطوة الثانية في اللقاء، الذي عقده، حديثا، رئيس الحكومة العراقيّة في الدوحة برعاية أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، مع الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع. في الأمس القريب، كان الشرع بالنسبة إلى محمد شياع السوداني “إرهابيا بربطة عنق” قاتل الأميركيين في العراق مع منظمات إسلامية متطرفة. كان السوداني يشكو من أن الأميركيين أخرجوا الشرع الذي كان يعرف بـ”أبومحمد الجولاني” من سجن عراقي…
إذا وضعنا جانبا حكومة مصطفى الكاظمي الذي سعى إلى اتخاذ موقف متوازن بين دول المنطقة، ليس سرّا أن العراق كان يتخذ، بين وقت وآخر، مواقف متصلبة من ترسيم الحدود مع الكويت بناء على توجيهات إيرانية. ليس سرّا أيضا أن نقطة الخلاف الأساسية التي بقيت عالقة، على الرغم من وجود اتفاق في شأن ترسيم الحدود بين العراق والكويت، هي النقطة المتعلقة بخور عبدالله. دفع موضوع حقل الدرة النفطي، الذي تطالب إيران بأن تكون شريكا فيه مع السعودية والكويت، إلى إعادة تحريك إيران للورقة العراقية ضد الكويت. فجأة ومن دون مقدمات وبعد شهرين من زيارة الشيخ سالم الصباح (وزير الخارجية الكويتي وقتذاك) إلى بغداد في تموز – يوليو 2023، تعلن المحكمة الاتحادية العليا العراقية بطلان مصادقة البرلمان العراقي على اتفاق الترسيم في خور عبدالله. كان البرلمان العراقي وافق على الاتفاق المتعلّق بالترسيم في العام 2013!
لم يكن ذلك مستغربا، نظرا إلى أنّ فائق زيدان رئيس المحكمة الاتحادية العراقية هو أحد رجال إيران الأقوياء في العراق. ما حصل أن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة قدما، قبل أيام، التماسا إلى المحكمة الاتحادية العليا. يدعو الالتماس إلى إبطال بطلان المصادقة على اتفاق الترسيم في خور عبدالله.
جاءت الخطوة العراقية الثانية مع بدء اعتراف بغداد بوجود واقع جديد في سوريا. التقى محمد شياع السوداني أحمد الشرع في الدوحة ليؤكد أنّ لا مشكلة في انعقاد قمة بغداد بحضور الشرع. عمليا اعترف العراق بالتغيير الكبير الذي شهدته سوريا، وهو تغيير متمثل في نهاية الحكم العلوي الذي شكل امتدادا للنفوذ الإيراني في المنطقة، أكان ذلك أيام حافظ الأسد أو أيام خليفته بشّار الأسد.
يهيئ العراق نفسه لمرحلة ما بعد الاتفاق الأميركي – الإيراني المتوقع التوصل إليه… أو لمرحلة العجز عن التوصل إلى مثل هذا الاتفاق مع ما سيثيره ذلك من توترات إقليمية على كلّ صعيد.
من الواضح أنّ محمّد شياع السوداني الذي رشّح نفسه للانتخابات التشريعية، المتوقعة السنة المقبلة، حريص على البقاء حيا يرزق سياسيا. لن يكون ذلك ممكنا من دون إعادة تموضع تسمح للعراق بامتلاك هامش من الاستقلالية حيال إيران التي لا تزال تراهن على عودة نوري المالكي أو شخص آخر يشبهه إلى موقع رئيس الحكومة.
إلى أيّ حد يستطيع محمّد شياع السوداني ممارسة لعبة استعادة العراق لدوره الإقليمي المتوازن الذي ميّز حكومة مصطفى الكاظمي التي استمرت حتّى انتخابات العام 2022؟
الأكيد أنّ الأمر لا يعتمد فقط على مبادرات تستهدف تسهيل انعقاد القمة العربيّة في بغداد. ثمة سؤال سيطرح نفسه بحدة عاجلا أم آجلا. يتعلّق السؤال بالموقف الرسمي من ميليشيات “الحشد الشعبي” التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني. سيبقى الموقف من “الحشد” الامتحان الكبير والحقيقي أمام أيّ حكومة عراقية تسعى إلى أن تكون متحررة من نفوذ إيران…
سيكون انعقاد القمة العربيّة في بغداد منعطفا. ستكشف القمة ما إذا كان محمّد شياع السوداني يستطيع أن يتغيّر عبر إظهار أنّه شخصية عراقية وطنية قادرة على الخروج من التعصب المذهبي الذي يصبّ في خدمة ما بقي من المشروع التوسعي الإيراني. في الواقع، لم يبق من هذا المشروع سوى العراق حيث تحاول “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإبقاء على نفوذها من منطلق الرهان على إثارة الغرائز المذهبية.
هل يمكن لمحمد شياع السوداني أن يكون في مستوى الأحداث التي تبدو أنّ المنطقة، بما في ذلك العراق، مقبلة عليها. سيعتمد الكثير على ما إذا كان في استطاعته إعادة العراق إلى وضع طبيعي، أي إلى لعب دور متوازن بين دول المنطقة وإيران.
في النهاية، كلّ كلام عن إيجاد سياسة عراقية متوازنة يظلّ كلاما… ما دام لا موقف واضحا من بقاء ميليشيات “الحشد الشعبي” وعدم بقائها. لا لشيء سوى لأن هذه الميليشيات ترمز إلى الوجود الإيراني في العراق لا أكثر ولا أقلّ.