سانْكارا توبيرا والقردة

سانْكارا.. توبيرا.. والقردة!

المغرب اليوم -

سانْكارا توبيرا والقردة

عبد الله الدامون

في بداية سنوات الثمانينيات فوجئ العالم بإفريقي شاب وصل إلى سدة حكم بلد اسمه، أو كان اسمه فُولْتا العليا. ذلك الشاب اسمه، أو كان اسمه توماس سانكارا. كان يستيقظ كل صباح ويتوجه إلى عمله على دراجة هوائية، وحين يتعب يمسك غيتاره ويغني قليلا، ثم يعود إلى العمل. بعض المغاربة قد يتذكرون توماس لأنه درس في المغرب، وبالضبط في الكلية العسكرية، وأمضى بعض الوقت في مكناس، وكان شابا مجتهدا ومخلصا، لذلك عندما عاد إلى بلاده قاد ثورة شعبية ضد حكام بلاده الفاسدين وأصبح رئيساً لمجلس الثورة. بعد أن وصل سانْكارا إلى الحكم غيّر اسم بلاده إلى «بوركينا فاصو»، ومعناها باللغة المحلية «أرض الرجال»، وأجرى تغييرات جذرية كان الهدف منها قطع دابر الفساد ووقف استغلال القوى الاستعمارية لخيرات بلاده، وعلى رأسها، بطبيعة الحال، فرنسا. وفوق كل هذا وذاك استمر يعزف بمهارة على غيتاره ويركب دراجة هوائية بين منزله ومقر عمله، لأنه ألغى ما يسمى القصر الرئاسي. في سنة 1987 تم حبْك انقلاب عسكري ضده، قاده رفيقه في الدراسة والحكم، فقُتل على يد أقرب مساعديه، وأشارت أصابع الاتهام مباشرة إلى فرنسا، التي دبرت الانقلاب على رئيس إفريقي شاب كان يحلم بتحرير إفريقيا كلها من براثن الاستعمار غير المباشر. هكذا غادر سانكارا السلطة والحياة معا وهو في الثامنة والثلاثين من العمر، وترك وراءه أحلاما إفريقية كثيرة وجميلة، يبدو أنها تحتاج إلى عقود، وربما قرون كي تتحقق. رحل سانكارا لأن فرنسا لا تحب الرؤساء الأفارقة الذين يعزفون الغيتار ويركبون الدراجات الهوائية. إنها تعشق فقط أولئك الرؤساء الذين يراكمون الثروات ويتاجرون في الماس والعاج وينهبون ثروات شعوبهم. فرنسا لا تحتمل الزعماء الأفارقة النظيفين الذي يعملون من أجل خدمة شعوبهم وأوطانهم، بل تحب الرؤساء العملاء الذين يتفانون في خدمة أنفسهم.. وأمهم: فرنسا. نتذكر اليوم ذلك الرئيس والمناضل الإفريقي الشهم، توماس سانكارا، ونحن نتتبع ما جرى للوزيرة الفرنسية كريستيان توبيرا، التي كانت تتقلد واحدة من أهم الوزارات في فرنسا، وزارة العدل، ثم صفقت الباب وراءها ووضعت خوذتها على رأسها وركبت دراجتها الهوائية ورحلت. هذه هي فرنسا دائماً، لا مكان في قلبها لأصحاب الدراجات الهوائية. كريستيان توبيرا قد تتشابه مع سانكارا في شيئين، أولهما أنها وزيرة مهمة لا تتوفر على سيارة، بل فقط على دراجة هوائية، وثانيهما أنها من أصول لاتينية، وبالضبط من غويانا الفرنسية في أمريكا اللاتينية.غادرت توبيرا الحكومة احتجاجا على النفاق الفرنسي الذي يجعل الجنسية الفرنسية مجرد ألعوبة في يد الدولة الفرنسية تمنحها لمن تشاء وتنزعها عمن تشاء. فرنسا تتصرف وكأنها الجنة، وكل من ليس فرنسي الدم هو مشبوه في فرنسيته مهما فعل، أما الفرنسيون الأقحاح من أصحاب الدم النقي فلا مجال لنزع جنسيتهم مهما فعلوا لأن الدم لا يُنزع. هكذا أحست كريستيان توبيرا بأنها معنية أيضاً بقانون نزع الجنسية، حتى لو كان ذلك مستحيلا من الناحية العملية، فهي ابنة مستعمرة، والدم الفرنسي «الصافي» لا يجري في عروقها. قليلون يدركون معنى السعادة الحقيقية التي تكمن في قلب الطاولة ونبذ المال والجاه وصفق الباب ثم ركوب دراجة هوائية والانطلاق بعيدا عن عالم النفاق. هذا ما فعلته توبيرا، التي أعطت بذلك دروسا للكثيرين من أبناء فرنسا وحوارييها في بلدان العالم المتخلف. عندنا في المغرب «لوبي فرنسي» قوي، أقوى من «لوبي المغرب» في المغرب. وهذا اللوبي يعتبر أن كل ما يأتي من فرنسا يشبه النصوص المقدسة في الكتب السماوية، وكثير من مسؤولينا يفرحون مثل أطفال بجنسيتهم الفرنسية وينظرون إلينا، نحن «الماروكان أورْدينير»، وكأننا مواطنون من الدرجة الثالثة.. أو العاشرة. لكن كل هؤلاء المهووسين بفرنسا ولغتها ونفاقها، لن يجرؤ واحد منهم على الاقتداء بوزيرة العدل الفرنسية، ليس في استقالتها الرومانسية فقط، بل في تعففها ونكرانها لذاتها واكتفائها بدراجة هوائية. اللوبي الفرنسي عندنا يقتدي بفرنسا في كل القشور والتفاهات، ويتجاهل كل المبادئ الإنسانية الجميلة. أعضاء اللوبي الفرنسي عندنا من الذين رفعوا شعار «أنا شارلي» بعيد الهجوم الدموي على مطبوعة «شارلي إيبدو»، لا يجرؤون أبدا على رفع شعار «أنا كريستيان»، للتضامن مع الوزيرة توبيرا، التي استقالت، ليس لمجرد الاختلاف، بل احتجاجا على النفاق الفرنسي الفظيع الذي تمارسه باريس مع «رعاياها الأوفياء» في مختلف مناطق العالم. أعضاء اللوبي الفرنسي عندنا أسوأ من القردة. فالقرود تأكل لبّ الموز وترمي القشور، أما عشاق فرنسا فيأكلون القشور ويرمون اللبّ!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

سانْكارا توبيرا والقردة سانْكارا توبيرا والقردة



GMT 20:12 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

سيد الأمم المتحدة

GMT 20:10 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

شمس بنيامين نتنياهو المتمددة الحارقة

GMT 20:09 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

ذكرى «البيجر» وعبرة الأيام

GMT 20:07 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

الفرقة الموسيقية أقوى من صوت كل عازف منفرد

GMT 20:05 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

إسرائيل... وأوان مواجهة خارج الصندوق

GMT 20:03 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

الإسورة ساحت!

GMT 20:02 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

الست المبعوثة

GMT 20:00 2025 السبت ,20 أيلول / سبتمبر

أسرار الدوحة!

رحمة رياض تتألق بإطلالات صباحية أنيقة وعصرية تناسب أجواء الخريف

بغداد - المغرب اليوم

GMT 11:39 2019 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تواصل انقطاع دواء حيوي خاص بمرضى الغدة الدرقية

GMT 10:25 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

إدين هازارد يُؤكّد أنّ محمد صلاح أحقّ بالكرة الذهبية من ميسي

GMT 18:58 2019 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

تأجيل الدوري المصري وتحديد موعد لقاء الأهلي والزمالك

GMT 09:05 2019 الأربعاء ,17 تموز / يوليو

فيصل يُعلن رفض "حصانة" المجلس العسكري السوداني
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib