وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق

وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق!

المغرب اليوم -

وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

أن نتحدّث اليوم عن الأوطان والدول، والحدود والسيادات، في منطقة المشرق، فهذا يبدو أقرب إلى مناسبات دفن الموتى. وهناك عشرات البراهين التي يمكن تقديمها برهاناً على تلك الخاتمة غير السعيدة، التي يجعلها أقلّ إسعاداً أنّنا في أمسّ الحاجة راهناً إلى أوطان ودول وحدود وسيادات.

تقيم في هذا الواقع عاطفتان متناقضتان: من جهة، ميول سلطويّة حادّة ومتطرّفة تريد عبر الإخضاع والغلبة أن تحكم سواها المغاير لها. ومن جهة أخرى، ميول انفصاليّة تامّة وحاسمة، تستعير اللغة القوميّة العربيّة القديمة في رفض «كيانات سايكس بيكو المصطنعة» لتصل إلى نتائج مختلفة جذريّاً مفادها المطالبة بكيانات أصغر. وقد رأينا، منذ تدخّل «حزب الله» في سوريّا أنّ الحدود الوطنيّة لا تحدّ شيئاً. فالحكمة الرائجة اليوم أنّ الجماعات الدينيّة والمذهبيّة والعشائريّة تعبر الحدود الوطنيّة كي تتضامن مع أبناء دينها ومذهبها وعشيرتها على الطرف الآخر من الحدود الورقيّة.

والعاطفتان قويّتان تقليديّاً بما يكفي ويفيض، لا يؤثّر في ذلك، إلاّ في الحدّ الادنى، الخطاب الآيديولوجيّ للأطراف المعنيّة، بسلطويّيها وانفصاليّيها، ووعودها التحريريّة والتوحيديّة وغير ذلك.

فقوّة الدولة، بوصفها سلطة أمنيّة أساساً، هي ممّا تستعرضه تجارب المشرق بسخاء لا ينافسه إلاّ سخاء الاعتراض عليها من مواقع الجماعات الأهليّة المُستَبعَدة. ففي العراق مثلاً ربّما كان مؤسّس الوجهة هذه الضابط بكر صدقي، الذي أنزل بالأشوريّين مذبحة سميل في 1933، لينفّذ هو نفسه، بعد ثلاث سنوات، الانقلاب العسكريّ الأوّل في العالم العربيّ.

وفي ذروة العصر الآيديولوجيّ، قدّم العراق تجربة أخرى بليغة الدلالة. فمع محاولة انقلاب عبد الوهاب الشوّاف في 1959، وصدام القوميّين العرب والشيوعيّين، قاد أحمد عجيل الياور، زعيم قبيلة شُمّر، مقاتلين أرادوا «الدفاع عن القوميّة العربيّة» مصحوبين بأقاربهم الشمّريّين السوريّين ممّن هبّوا لإنجاد أبناء عمومتهم في الموصل. وكان استطراد ذلك بعد بضعة أشهر ارتكاب الشيوعيّين الكرد مجزرة في كركوك بحقّ الأقلّيّة التركمانيّة.

أمّا في سوريّا، فيُعدّ أديب الشيشكلي الذي نفّذ الانقلابين الثالث والرابع في تاريخ بلده الحديث، المهندس المبكر للحكم «القويّ». لكنّه هو نفسه مَن قصف مدينة السويداء وجوارها، ونكّل بسكّانها الدروز، كما حوّل قمع المعارضين، الذي مارسه حسني الزعيم وسامي الحنّاوي باعتباط وتعثّر، منهجاً متماسكاً ومؤدلجاً.

وبسبب اختلاف الظروف اللبنانيّة كانت تصدر ممارسة «القوّة» المهدِّدة للحياة المدنيّة ولشعور الجماعات بالمساواة، عن «دول» الظلّ أكثر كثيراً ممّا تأتي من الدولة الفعليّة. هكذا، وبذريعة «تحرير فلسطين» أو «مقاتلة إسرائيل»، تعاقب على أداء هذه الوظيفة المقاومة الفلسطينيّة و«حزب الله» اللبنانيّ، وهما بالتعريف طرفان أهليّان.

وغالباً ما كان شعار «الوحدة» تحويراً لشبق القوّة هذا. فسوريّا، أكثر بلدان المشرق افتتاناً بالوحدة، رأت فيها مدخلاً لتكبير نفسها عبر ضمّ بلدان المشرق الأصغر. لكنّ ظروف ما بعد «العدوان الثلاثيّ» في 1956 حملتها على الوحدة مع مصر، لا مع لبنان والأردن، ومع جمال عبد الناصر، لا مع زعماء الطوائف والقرى. هكذا، وبشيء من «مكر التاريخ» على طريقتنا، وجدت سوريّا أنّها صغّرت نفسها بالوحدة ولم تكبّرها، فكان انفصال 1961.

ولاحقاً اتّعظ البعثيّون بالتجربة فاستولوا على سلطة صبغوها بالتوحّش فيما كانوا ينسبون إليها أكثر المهمّات والوعود الآيديولوجيّة تضخّماً وتقديساً. وكان من النتائج الملازمة إمعان المجتمع في التفسّخ الطائفيّ والأهليّ.

فالآيديولوجيا المعلنة، كائناً ما كان الرأي فيها، عاشت دائماً كاليتيم على مأدبة اللئيمين – طلب السلطة وتوحيشها، ونشر الكراهية والميل الانفصاليّ في المجتمع. وقد سبق لستالين أن قدّم لنا درساً بالغ الغنى على هذا الصعيد: فعلى عكس الموقف النظريّ الماركسيّ واللينينيّ حول ذواء الدولة واضمحلالها، اندفع المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعيّ السوفياتيّ، عام 1939، إلى المطالبة بتعزيز الدولة إبّان الانتقال إلى الاشتراكيّة. هكذا بات التخلّص منها يتمّ من طريق توطيدها! وأهمّ من ذلك أنّ التحوّل هذا جاء مباشرةً بعد «التطهير الكبير» أو «الإرهاب العظيم».

أمّا الدول التي تستثمر في المآسي، كإسرائيل أو إيران أو تركيّا، فأدوارها تندرج في النتائج، لا في الأسباب الغنيّة التي تحتكرها نزعتا السلطويّة والانفصاليّة القُصويان.

ومنذ اليونان القديمة، علّمنا «المعلّم» أرسطو أنّ ثمّة «وسطاً ذهبيّاً» هو «الفضيلة» الواقعة بين «رذيلتين». فالكرم هو الوسط بين البخل والتبذير، والشجاعة هي الوسط بين الجبن والتهوّر، وهكذا... فهل تكون الفيدراليّة لبلدان المشرق هي ذاك الوسط الذهبيّ بين النزعتين المدمّرتين، أي القوّة المسمّاة وحدة، والانفصال أو التقسيم وحروبه العابرة للحدود؟ ربّما جاز ذلك. لكنّ المؤكّد، على أيّ حال، أنّ الذين يحذّرون من المسّ بالخرائط بحجّة أنّ الاقتتال سوف يندلع لاحقاً داخل المكوّن الواحد، يضعون ما «قد» يحدث في مواجهة ما يحدث ممّا لا يُطاق. وهذا ما لا يرتكبه إلاّ من ينسبون إلى أنفسهم معرفة بـ«حركة التاريخ» يصحبها جهل بما سوف يحصل بعد عشر دقائق.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق وحدات وانفصالات ومراجعات في المشرق



GMT 15:23 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

عفواً سيّدي الجلاد

GMT 15:21 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

الفوسفات والذنيبات والمسؤولية المجتمعية تصل البربيطة

GMT 15:18 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أبو دلامة وجي دي فانس

GMT 15:07 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

العودة إلى إسحق رابين

GMT 14:59 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

من الساحل إلى الأطلسي: طريق التنمية من أجل الاستقرار

GMT 14:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

فضيحة في تل أبيب!

GMT 14:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تفرح بافتتاح المتحف الكبير (1)

GMT 14:42 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

شخص غير مرغوب فيه

نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 02:54 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

في يوم العلم الإماراتي استوحي أناقتك من إطلالات النجمات
المغرب اليوم - في يوم العلم الإماراتي استوحي أناقتك من إطلالات النجمات

GMT 10:46 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة
المغرب اليوم - أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 13:31 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط
المغرب اليوم - طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط

GMT 00:22 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

بوتين يؤكد صاروخ بوريفيستنيك يضمن أمن روسيا لعقود
المغرب اليوم - بوتين يؤكد صاروخ بوريفيستنيك يضمن أمن روسيا لعقود

GMT 18:26 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير
المغرب اليوم - بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير

GMT 21:54 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة
المغرب اليوم - تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة

GMT 18:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي
المغرب اليوم - خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي

GMT 01:36 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد حلمي وهند صبري في أول تعاون سينمائي بأضعف خلقه
المغرب اليوم - أحمد حلمي وهند صبري في أول تعاون سينمائي بأضعف خلقه

GMT 20:20 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

4 أصوات تشير إلى أعطال في محركات السيارات

GMT 06:27 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

دراسة تؤكّد تأثير حجم المخ على التحكّم في النفس

GMT 21:07 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

"سباق الدراجات" يدعم ترشح المغرب للمونديال

GMT 01:40 2018 السبت ,10 آذار/ مارس

رجل يشكو زوجته لسوء سلوكها في طنجة

GMT 05:32 2017 الأربعاء ,03 أيار / مايو

محمود عباس فى البيت الأبيض.. من دون فلسطين!

GMT 06:27 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

باكستان تُبعد صاحبة صورة ناشيونال جيوغرافيك الشهيرة

GMT 04:19 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

"فرزاتشي Versaci" تطلق مجموعتها الساحرة لعام 2017

GMT 07:02 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

فيلم الرعب الأميركي "Happy Death Day" الأول على شباك التذاكر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib