بقلم : سليمان جودة
وجود بريطانيا بالذات فى قائمة الدول التى أعلنت اعترافها بفلسطين أمر غريب جدًا، وأكاد أقول إنه أمر يستعصى على الفهم.
إننى أستقبل نبأ اعتراف البرتغال بفلسطين على أنه نبأ عادى رغم أهميته طبعًا، ونفس الشىء مع كندا وهى تحذو حذو البرتغال، ثم أستراليا وهى تمضى إلى الاعتراف ذاته بالتوازى معهما، بل وحتى فرنسا بما لها من وزن دولى وثقل فى أوروبا.. وهكذا.. وهكذا.. إلى آخر قائمة الدول الإحدى عشرة التى اعترفت أو أعلنت أنها ستعترف.
إلا بريطانيا.. فهى صاحبة وعد بلفور الشهير الذى كان وبالًا على المنطقة. كان ذلك فى عام ١٩١٧ عندما قال وزير خارجيتها، أرثر جيمس بلفور، إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى مسألة إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين. ومن يومها دفعت المنطقة الثمن دمًا، وعنفًا، وتطرفًا، ونسفًا، وتدميرًا، ودمارًا، ولا تزال تدفعه كما نرى.
فهل أحست حكومة السير كير ستارمر فى لندن بالذنب فجأة، وقررت أن تكفّر عن ذنب الحكومة القديمة بالاعتراف بفلسطين رسميًا؟.. هذا وارد.. ولكنك لا تستطيع هضمه فضلًا عن ابتلاعه، لأننا لم نعرف من قبل أن الساسة الإنجليز رحماء إلى هذا الحد، ولا أنهم أصحاب قلوب إلى هذه الدرجة، ولا أنهم انتقلوا من العطف على السعى لإقامة دولة يهودية، إلى العطف على السعى لإقامة دولة فلسطينية.. لم نعرف هذا من قبل.. وإذا كان البريطانيون قد أفاقوا فجأة وقرروا إصلاح أخطاء الماضى، فما سبب هذه الإفاقة؟.. لا بد من سبب لأنه لا شىء ينشأ من فراغ.. إننى لا أقتنع بأن السبب هو ما جرى للفلسطينيين على مدى ما يقرب من العامين منذ إطلاق الحرب على غزة.. لا أرى فى ذلك سببًا يُقنعنى حتى هذه اللحظة.
ثم إن الرئيس ترمب عاد بالكاد من زيارة إلى بريطانيا التقى خلالها الملك تشارلز والسير ستارمر، ومن يومها وهو لا يتوقف عن وصف سعادته بالزيارة.
وليس سرًا أن العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا هى أقوى علاقة بين دولتين فى العالم، وليس سرًا أيضًا أن إدارة ترمب غير راضية بالمرة عن حكاية الاعتراف بفلسطين، ولا يزال ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكى، يتوعد الدول التى تعترف أو تعلن أنها ستعترف!.
وقد عاشت بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية تهتدى بالولايات المتحدة فى طريق السياسة، فلا تتجه واشنطن إلى اليمين، إلا وتتجه إليه لندن دون تأخير، ولا تغير بلاد العم سام وجهتها إلى الشمال، إلا ويكون هذا الشمال هو وجهة الإنجليز.. فماذا طرأ فجعل حكومة ستارمر تعترف بفلسطين؟.. «شيء ما» غير واضح بالمرة فى اعتراف عاصمة الضباب، ولكنه سيتضح لا بد فى الغد أو فيما بعد الغد. وبالطبع فإن اعتراف بريطانيا يستحق الشكر الواجب، ولكن أسبابه المعلنة غير كافية للإقناع، كما أنها محاطة بالكثير من الغموض.