الشتات مأوى الأحياء والأموات

الشتات مأوى الأحياء والأموات

المغرب اليوم -

الشتات مأوى الأحياء والأموات

بكر عويضة
بقلم - بكر عويضة

قبل بضعة أيام دُفن بمقبرة «الخوض الأهلية» في مسقط، مواطن غزاوي بعدما تُوفي عن أربعة وسبعين عاماً. أمِن غرابة في أمر كهذا؟ كلا، إطلاقاً. البقاء للخالق وحده، فكل نفس راجعةٌ إلى بارئها حين يحل أجلها، فلا تؤخَّر ساعة، ولا تُقدَّم ثانية، وأما تراب القبر فهو في انتظار بدن منه خُلِق، وإليه يرجع. بعد التسليم المُطلق بما تَقَدم من حقائق الحياة والموت، يمكن القول إن في مبتدأ حكاية ابن قطاع غزة، المُوارى جسدُه الثرى في سلطنة عُمان يوم الأحد قبل الماضي، وفي منتهاها، بعضَ عِبَرٍ، لِمن يريد الاعتبار، ونوعاً من التذكير، للراغب أن يتذكر، كم أن مأساة الفلسطيني تتميز عن غيرها من مآسي بشر كثيرين، عانوا هم أيضاً من قهر الاحتلال، وظلم العدوان، في مشارق الأرض ومغاربها، فمنافي الشتات تبقى هي مأوى الفلسطينيين، الأحياء منهم والأموات.

في تفاصيل الحكاية أن الراحل الغزاوي وصل إلى عُمان من مصر، التي كانت ثانية محطات مأوى اضطر للرحيل إليه من رفح، بعد مغادرة بيته في قلب مدينة غزة ثالثَ أيام نكبة «طوفان الأقصى». هُوَ بالتأكيد ليس وحيد المِثال، إنه واحدٌ من آلاف مثله، ولذا فالحديث هنا يخص الحالة عموماً، وليس الشخص تحديداً، أي الذين رأوا بأمهات أعينهم كيف تهاوى بنيانُ العمر خلال بضع لحظات.

المقصود من تعبير «بنيان العمر» هو البناء الذي كان مُتاح الإنشاء بين شرائح مهنيين ذوي اختصاصات مختلفة، وإمكانات متعددة، في مختلف المجالات. هؤلاء هم، وهن، إما أطباء، أو مهندسون، وربما محامون، أو معلمون، وكذلك أدباء ومبدعون، أو غيرهم من حقول عدة. يمكن تخيّل مدى الصدمات (TRUMA) التي أصابت معظم المنتمين لتلك الشرائح في غزة، خصوصاً الذين تجاوزوا خواتيم ستينات العمر، حين ينهار أمامهم، فجأة، وكما يرون دمار منازلهم، بنيانُ كل الذي حققوا من استقرار عائلي، ونجاح مِهني، واطمئنان نفساني، طوال خمسين عاماً.

صحيح أن «تروما» الحروب، وما تنضح به من مآسٍ وويلات، تجتاح نفوس مختلف شرائح الأعمار والطبقات، فلا ينجو من بعضها أطفال، ولا مراهقون ومراهقات، إنما يبقى الأمل أرحب في تجاوزها، وإعادة بناء ما تهدّم فجأة، أمام الشبان والشابات، في حين أنها قد تكون اللكمة القاضية في ملاكمات الشد والجذب بين المرء وتقلبات مشوار الحياة. يبدو أن تلك المعاناة ذاتها كانت من نصيب غزاوي مدخل هذه المقالة، وهو من قامات قطاع غزة في حقل القانون والقضاء. نجح خلال خمسين عاماً، بدأت عام 1976، بعد التخرج في جامعة القاهرة، في إنشاء بنيان إنجازات مِهنية ارتفع عالياً، كما «برج الجلاء»، الذي كان يضم مكتبه قبل أن يُدمر في حرب 2022. أما مَنْ يكون تحديداً، فقد حان البوح بأنه شقيقي ناظم، الذي دعته ابنتاه، مع والدتهما، وبموافقة مشكورة من السلطات العُمانية، للإقامة معهما مؤقتاً حتى يلوح حل ما في الأفق، فإذا بلقاء وجه الخالق ينتظره هناك. لله الحمد من قبل ومن بعد. أليس واضحاً أن منافي الشتات تظل مأوى الفلسطينيين، الأحياء منهم والأموات؟ بلى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشتات مأوى الأحياء والأموات الشتات مأوى الأحياء والأموات



GMT 14:00 2025 الثلاثاء ,03 حزيران / يونيو

إيقاع الفرج

GMT 13:59 2025 الثلاثاء ,03 حزيران / يونيو

البلديات على جمر الانتظار

GMT 13:56 2025 الثلاثاء ,03 حزيران / يونيو

ثلج الإسكندرية وكويكب الجزائر ولهَب حائل!

GMT 13:55 2025 الثلاثاء ,03 حزيران / يونيو

غزة ونهاية «تفويت الفرص»

GMT 13:53 2025 الثلاثاء ,03 حزيران / يونيو

هل تتقدّم الضربة على الاتفاق النووي؟

GMT 13:52 2025 الثلاثاء ,03 حزيران / يونيو

أزمة ليبيا أمام شقيقاتها الثلاث

GMT 13:50 2025 الثلاثاء ,03 حزيران / يونيو

«اللطافة والخفافة مذهبي»!!

GMT 13:49 2025 الثلاثاء ,03 حزيران / يونيو

الذكاء القادم

أمينة خليل تتألق بفستان زفاف ملكي يعكس أنوثة ناعمة وأناقة خالدة

القاهرة - سعيد الفرماوي

GMT 13:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 08:24 2025 الإثنين ,19 أيار / مايو

بارما ويشعل الصراع في الدوري الإيطالي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib