الشرق الأوسط ومحنة الفقر السياسي

الشرق الأوسط ومحنة الفقر السياسي

المغرب اليوم -

الشرق الأوسط ومحنة الفقر السياسي

نديم قطيش
بقلم - نديم قطيش

دفعَت المنطقة، على امتداد نصف قرن، أثماناً مرعبة جراء النزاع مع إسرائيل، إذ صُورتْ إسرائيل بأنَّها كيانٌ هش، قائم على الدعم الخارجي أكثر مما هو قائم على تماسك داخلي أو شرعية وجود. وهذا أفرز سرديات قومية وإسلامية ويسارية كاملة تدعو لانتظار سقوطِها الحتمي والوشيك. ونابت هذه الترسانة العقائدية دوماً عن الحاجة إلى تطوير مشاريع سياسية، وبررت لأصحابها افتقارهم للمسؤولية التاريخية عن أحوالهم وأحوال شعوبهم وبلدانهم.

يتسلل، في الاتجاه المعاكس، وهم قد يكون أخطر، مفاده أن إسرائيل ما عادت بحاجة إلى السياسة وأفكارها، وأن فائض القوة ومنطق الردع الدائم ينوبان عن الاعتراف بها عبر ترتيبات السلام والتطبيع والتسويات، ويتيحان لها أن تعيد تشكيل الإقليم وحدها بلا مفاوضات أو شراكات.

هذا تماماً ما أفصحت عنه الضربة التي تعرّضت لها دمشق في أعقاب أحداث السويداء. قصف مذهل بتوقيته، وقوته، وبالاستعراض العنيف الذي انطوى عليه في قلب العاصمة؛ فهي رسالة جيو - سياسية، تفيد بأن إسرائيل ما عادت تكتفي بإجهاض تهديدات قائمة، بل جاهزة لتوظيف تفوقها العسكري بغية فرض معادلات سياسية تناسبها. ولئن جاء القصف في أعقاب سيل من التقارير عن مفاوضات سلام بين دمشق وتل أبيب، فإن رسائله آذت كثيراً الرهان العاقل على أن تحييد مهددات الاستقرار في الاقليم يمر عبر تطوير التحالفات وتعميق التفاهمات والبناء على المصالح المشتركة.

كأن إسرائيل تعيش اليوم لحظتها «الناصرية» بشكل معكوس، وتتقمص مقولة إن «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة»، باعتبارها عقيدة سيطرة مستدامة، لا ترى في التسويات إلا تهديداً لوجودها ولا في الحاجة للاعتراف السياسي إلا عبئاً، يعطل قدرتها على فرض نموذج إقليمي جديد يعيد إنتاج التوازنات من الجو، بلا شركاء، بلا تفاوض، وبلا حاجة حتى إلى وسطاء.

بيد أن الناصرية سقطت حين أوهمت الجماهير أن امتلاك الميكروفون يغني عن امتلاك المشروع، وهذا يكاد يؤشر إلى مصير النموذج الإسرائيلي الراهن الذي يرى أن طائرات «إف - 35» تغني عن الأفق السياسي، وتحرر تل أبيب من الحاجة لتقديم «رؤية»، لا لخصومها فقط، بل لحلفائها، ولمجتمعها، وللعالم.

ثمّة خلط قاتل بين حاجة إسرائيل لامتلاك أدوات ردع فعالة، وأن تُحسن توظيف هذه الأدوات ضمن استراتيجية مستدامة يحميها غطاء سياسي داخلي متماسك، ودعم إقليمي ودولي واضح، بغية تحقيق مشروع سياسي للمنطقة؛ لأن البديل الذي يلوح في الأفق الآن هو حالة استنزاف دائمة تدخلها إسرائيل (والمنطقة)، تستهلك مواردها، وتفاقم التشظي المجتمعي، وتضعف شرعية القرار السياسي والاستراتيجي، على نحو يجعل من السعي إلى فرض الاستقرار بالقوة، مجرد دينامية اضطراب مزمن. كما يهدد هذا النموذج بضرب ما تبقى من مراكز التوازن في المنطقة، ويُضعف منطق الواقعية، ويُحرج كل رهانٍ على الاعتدال والتجسير بين إسرائيل ومحيطها.

إن مثل هذا الافتقار المرعب لأي أفق سياسي، حتى لإدارة الصراع، وتحويل التفوق العسكري إلى ما يشبه الهوية، والإقليم إلى حقل عمليات مفتوح، يحرر على المقلب الآخر، جماعات الرفض من عبء التأقلم والتغيير، ويسمح لها بإعادة إنتاج سردياتها عن وجود إسرائيل ودورها في «تقسيم الدول العربية وإضعافها»!

قبلاً، فشلت إسرائيل، رغم ما راكمته من تفوق عسكري وتكنولوجي، في تثبيت شرعية موقعها الإقليمي، لأنها لم تغادر، إلا لماماً، منطق الدفاع الدائم؛ فكثيراً ما عرفت نفسها من خلال ما ترفضه، لا ما تقترحه، ومن خلال ما تخشاه، لا ما تأمله. واليوم، تبدو إسرائيل مكتفية بمنطق الهجوم الدائم، من خان يونس إلى أصفهان. وبين المنطقين، يكاد يندر أن يُعثر على أي جهد لبناء سردية سياسية أو أخلاقية تسمح لها بتثبيت وجودها في زمن الشرق الأوسط، لا في جغرافيته فقط.

ما يفوت إسرائيل الحالية، وما يفوتنا أيضاً، أننا في الشرق الأوسط، لا نعيش سباق تسلّح، بل سباق سرديات.

وفي هذا الخصوص، ثمة مسؤولية عربية أيضاً، عن إنتاج أفق سياسي متماسك، يكف عن التعامل مع الأزمات في غزة وسوريا ولبنان واليمن والسودان والعراق، بمنطق التجزئة، ومن دون أن يُطرح تصور إقليمي شامل يُعيد تعريف ما هو ممكن. يضاف إلى ذلك أنَّ هناك بعض الارتياب والتردد لدينا حيال فكرة أن الأنظمة المأزومة قابلة لإعادة التشكيل السياسي، وليست محكومة سلفاً بضرورة إرجاعها إلى «ما قبل» الانهيار، من دون تغيير؛ فانفجار الأنظمة ليس مجرد «حالة يجب استيعابها»، بل فرصة لفرض هندسات سياسية مختلفة، تفتح الباب أمام تسويات داخلية قابلة للبقاء.

والحال، يكمن التهديد الحقيقي لإسرائيل ولنا، في الجفاف السياسي. العرب يحتمون بقوة الجغرافيا كأنها شرعية دائمة، وإسرائيل تهاجم بقوة العسكرة كأنها مشروع مستدام.

إن اختزال السياسة إلى تفوق جوي واستخباراتي، والشرعية إلى معطى جغرافي وتاريخي فقط، مصيره أن يصنع فراغاً عملاقاً، والفراغ، في هذا الإقليم، لا يطول أبداً قبل أن يملأه خصمٌ ما، أو كارثة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الشرق الأوسط ومحنة الفقر السياسي الشرق الأوسط ومحنة الفقر السياسي



GMT 15:23 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

عفواً سيّدي الجلاد

GMT 15:21 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

الفوسفات والذنيبات والمسؤولية المجتمعية تصل البربيطة

GMT 15:18 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أبو دلامة وجي دي فانس

GMT 15:07 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

العودة إلى إسحق رابين

GMT 14:59 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

من الساحل إلى الأطلسي: طريق التنمية من أجل الاستقرار

GMT 14:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

فضيحة في تل أبيب!

GMT 14:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تفرح بافتتاح المتحف الكبير (1)

GMT 14:42 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

شخص غير مرغوب فيه

نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 13:31 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط
المغرب اليوم - طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط

GMT 00:22 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

بوتين يؤكد صاروخ بوريفيستنيك يضمن أمن روسيا لعقود
المغرب اليوم - بوتين يؤكد صاروخ بوريفيستنيك يضمن أمن روسيا لعقود

GMT 18:26 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير
المغرب اليوم - بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير

GMT 21:54 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة
المغرب اليوم - تفاصيل خطة تشكيل القوة الدولية لحفظ الأمن في غزة

GMT 18:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي
المغرب اليوم - خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي

GMT 20:20 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

4 أصوات تشير إلى أعطال في محركات السيارات

GMT 06:27 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

دراسة تؤكّد تأثير حجم المخ على التحكّم في النفس

GMT 21:07 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

"سباق الدراجات" يدعم ترشح المغرب للمونديال

GMT 01:40 2018 السبت ,10 آذار/ مارس

رجل يشكو زوجته لسوء سلوكها في طنجة

GMT 05:32 2017 الأربعاء ,03 أيار / مايو

محمود عباس فى البيت الأبيض.. من دون فلسطين!

GMT 06:27 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

باكستان تُبعد صاحبة صورة ناشيونال جيوغرافيك الشهيرة

GMT 04:19 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

"فرزاتشي Versaci" تطلق مجموعتها الساحرة لعام 2017

GMT 07:02 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

فيلم الرعب الأميركي "Happy Death Day" الأول على شباك التذاكر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib