بقلم : خالد منتصر
دث فى الآونة الأخيرة أن خرج البعض ليتحدثوا إلى جمهورهم بمعلومات تاريخية مغلوطة، وآخرها معلومات تتعلق بحروب ومعارك أو أحداث عسكرية، ولن ألجأ إلى الشخصنة لأن القضية أكبر من أشخاص، لأنها قضية تتعلق بالتجرؤ على إصدار فتاوى تاريخية تقترب من أضغاث الأحلام، لذلك لا بد أن نناقش بديهيات، فالوضع قد فرض علينا هذا، نتيجة لضعف الوعى التاريخى الذى يحتاج تكاتفاً إعلامياً وتعليمياً، لإنقاذنا من هذا الضلال التاريخى، وأحياناً التضليل التاريخى، السؤال الذى يفرض نفسه، ما هو علم التاريخ؟، هو سرد وتحليل للأحداث الماضية التى قام بها الإنسان، بهدف فهم تطور المجتمعات والحضارات عبر الزمن، كما قال ابن خلدون إن التاريخ «خبر عن الاجتماع الإنسانى الذى هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال»، هو دراسة منهجية للماضى الإنسانى باستخدام مصادر موثوقة (وثائق، آثار، شهادات، نصوص) وتحليلها وفق منهج علمى للكشف عن العلل والعلاقات بين الأحداث، أى إنه ليس مجرد سرد، بل تفسير وتحليل، ليس «طق حنك ورغى وثرثرة»، لا بد من منهج متماسك، ونسيج متجانس يضم الأحداث تحت ميكروسكوب معملى صارم، التاريخ له جانب فلسفى أيضاً.
يرى الفلاسفة أن التاريخ هو وعى الإنسان بوجوده عبر الزمن، ومحاولة لفهم القوانين التى تحكم حركة المجتمعات والأمم، الفيلسوف هيجل قال: «التاريخ هو مسيرة الوعى البشرى نحو الحرية»، المؤرخ كعالم الحفريات، فالتاريخ علم يبحث فى الوقائع الماضية من خلال منهج نقدى يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة التاريخية بأكبر قدر ممكن من الدقة، اعتماداً على الوثائق والآثار والمصادر الأصلية، لاحظوا أننى قلت «منهج نقدى»، يعنى التاريخ ليس رصاً للأحداث وذكراً جامداً للأرقام والتاريخ، لكنها تمر من خلال عينيك وعقلك ورؤيتك وخبراتك، وعلم التاريخ له بُعد ثقافى، هو دراسة تطور الثقافات والحضارات الإنسانية، وكيف أثرت الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفكرية فى تشكيل هوية الشعوب، وله بُعد اجتماعى، فالتاريخ ينظر إليه علماء الاجتماع بوصفه مرآة لتطور الإنسان والمجتمع، ووسيلة لفهم الحاضر من خلال الماضى، والتنبؤ باتجاهات المستقبل، والتاريخ فضلاً عن أنه علم، فهو فن أيضاً، هو فن رواية الأحداث الواقعية الماضية بأسلوب يجمع بين الدقة العلمية والجمال الأدبى، بحيث يصبح التاريخ قصة الإنسان الكبرى عبر الزمن، وهل نجيب محفوظ مثلاً لا نعتبره مصدراً تاريخياً؟ وهل لأنه فنان نحذفه من مصادرنا التاريخية؟
نأتى إلى ما يفرق التاريخ عن الفتوى، وهو المصادر، هناك المصادر الأولية (الأصلية) وهى المواد التى كُتبت أو سُجلت فى وقت وقوع الحدث نفسه، وتُعد أقرب ما يكون إلى الحقيقة التاريخية، مثل الوثائق الرسمية (معاهدات، مراسلات، قوانين، خطب)، النقوش والبرديات والكتابات على الأحجار والمعادن، اليوميات والمذكرات الشخصية، الصور الفوتوغرافية والأفلام القديمة، الأدوات والقطع الأثرية والعملات، شهادات شهود العيان، وهناك المصادر الثانوية، هى التى كُتبت بعد وقوع الحدث، اعتماداً على المصادر الأولية وتحليلها وتفسيرها، مثل كتب التاريخ والدراسات الأكاديمية، المقالات والتحليلات التاريخية، البرامج الوثائقية والتحقيقات، السّيَر التى تُكتب بعد وفاة أصحابها، وهناك المصادر الشفوية، وهى الروايات المنقولة مشافهةً من جيل إلى جيل، وتشمل الحكايات الشعبية، والأغانى التراثية، وشهادات من عاصروا الأحداث، وهناك الآن المصادر الحديثة والرقمية، لا بد أن نحترم أن التاريخ صار علماً ومناهج بحث وذاكرة أمم.