أنطونيو غرامشي قوة الثقافة المتجددة

أنطونيو غرامشي... قوة الثقافة المتجددة

المغرب اليوم -

أنطونيو غرامشي قوة الثقافة المتجددة

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

أنطونيو غرامشي، الأحدب العليل ابن جزيرة سردينيا الفقيرة بالجنوب الإيطالي. مناضل يساري تصدَّى للفاشية في بلاده، وألقى به نظام بينيتو موسوليني في السجن، رغم تمتّعه بالحصانة عندما كان عضواً في البرلمان الإيطالي. تبنى في مطلع شبابه الأفكار الماركسية، وأسس الحزب الشيوعي الإيطالي، لكنَّه انتقد أفكارَ ماركس، التي تقطع بأنَّ الاقتصاد هو المحرك الأساس للتاريخ. بدأ غرامشي مبكراً بالكتابة عن الجزيرة الإيطالية الجنوبية، التي وُلد بها جزيرة سردينيا. جمع أعماله هذه، الكاتب، قويدو ميليس، ونشرها تحت عنوان، «كتابات عن سردينيا». كتب غرامشي عن اللغة السردينية، ومعاناة الجزيرة من الفقر، وطموح أهل الجزيرة، وغيرها من القضايا التي شغلت نخب الجزيرة الفقيرة. انشغل بعد ذلك بالقضايا الوطنية الإيطالية، واندمج في العمل السياسي الوطني. عارض مبكراً السلطة الفاشية، وصار عضواً في البرلمان، ورفع صوتَه في داخله معلناً معارضته التسلط والديكتاتورية الفاشية، ليقدَّم إلى المحكمة التي قضت بسجنه. قضَى غرامشي إحدى عشرة سنة في السجون الفاشية، وهو يعاني المرض، لكنه لم يكن رهين محبسه، بل حوَّل سجنه خندقاً يشع منه الفكر. بعث برسائله إلى أفراد عائلته، وإلى رفاقه، عبَّر فيها عن عواطفه مضمنها أفكاره. جُمعت الرسائل ونُشرت في أربعة مجلدات، بعنوان «كراسات السجن»؛ لأنه كتبها على ورق الكراسات التي يستعملها التلاميذ في المدارس. كتب في مختلف مجالات المعرفة. كان يطلق على نفسه، صفة القارئ. فقد تمكن وهو يعاني العذاب في زنزانته، من قراءة أعمال الفلاسفة والمؤرخين الإيطاليين والألمان والإنجليز والفرنسيين، وتأثر بميكيافللي وهيغل وماركس. انتقد أعمال ماركس، والثورة البلشفية في روسيا، رغم انتمائه للحزب الشيوعي، وتقديره أفكار لينين، واختلف معه فيما يتصل بمفهوم الدولة وتكوينها، والعلاقة بين البرجوازية والطبقة العاملة. لم تكن الدوغما الآيديولوجية، محبسه الثاني، فقد كان أنطونيو غرامشي، مفكراً حراً يضرب بمطرقة ثقافته، ما عملت الفاشية على فرضه على الناس، وآمن بأن الآيديولوجيا المغلقة، هي ضرب من التسلط والتقوقع. آمن بقوة وفاعلية الثقافة. كتب غرامشي كثيراً عن قوة الثقافة، وقدرتها على تحقيق النهوض الشامل في جميع المجالات. ارتبط اسمه بمفهوم «المثقف العضوي»، وأعطى لهذا المفهوم، أبعاداً وتحديدات وفاعليات شملت، كل خيوط النسيج الثقافي في المجتمع. في رأيه، أن المثقف العضوي يوجد في مختلف شرائح المجتمع، وهو يختلف عن المثقف التقليدي، الذي يستلبه الموروث الجامد، والمصلحة الذاتية. الناشطون في المجتمع المدني والأحزاب والنقابات المهنية المختلفة، كل واحد منهم، هو مثقف له تأثير في حلقات مجموعته.

ناقش أنطونيو غرامشي، دور الثقافة الشعبية، وقوتها وقدرتها على الوصول إلى العامة. ركَّز على الوعاء الخطابي ومضمون الخطاب. كذلك ثقافة الفنون والإبداع بكل ألوانه. أفرد مقالات طويلة عن الإنسانية، وقال إن حركة النهضة، جعلت الإنسان يؤمن بأنه مركز الكون، وإن عصر النهضة خلق ثقافة حضارية جديدة. الإنسان قبل عصر النهضة، كان لا شيء وبعدها صار هو كل شيء، وإن عصر النهضة هو أكبر ثورة ثقافية في التاريخ. محور فكر غرامشي هو، أن الثقافة هي محرك الإنسان، وليس كما ذهب كارل ماركس، بأن الاقتصاد هو المحرك للإنسان في مسيرته الطويلة عبر التاريخ. فالثقافة تشعل روح الحرية في الإنسان، وتجعله يفكر ويبدع ويتقدم دون سدود أو حدود. كان لعصر النهضة حضور قوي في فكر أنطونيو غرامشي، فقد كان يحفّز بكتاباته الفاعلين، في المنظومة الاجتماعية على الدفع نحو عصر نهضة جديدة بقوة الثقافة. فقد تأثر بعصر النهضة الإيطالي الذي انطلق في القرن الثالث عشر، وتحرك إلى غرب أوروبا. فقد كان عصر النهضة نقطة الانطلاق إلى مرحلة حضارية جديدة في كل أوروبا، وكان المهد للإنسان الجديد، المتحرر من هيمنة القيود الدينية في العصور الوسطى.

كتب غرامشي في كراساته، عن الإبداع بكل أنماطه، القصة والشعر والرسم والصحافة، وفعلها الثقافي الكبير في تحرير العقل. مارس النقد الأدبي مبكراً وكتب الكثير في هذا المجال. الثقافة الشعبية، شكلت أحد محاور اهتماماته، ودرس الروايات التي يقبل عليها عامة الناس، ليس في إيطاليا فحسب، إنما في بعض بلدان أوروبا الغربية الأخرى، وخصوصاً فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ومدى تأثيرها في وعي الوسط الشعبي.

هذا الرجل القصير القامة، الذي تعرض لحادث جعله احدب، وقضى سنوات طويلة في سجون الفاشية الإيطالية، وعاش بعيداً عن زوجته الروسية التي عادت إلى بلادها بعد سجنه، ومعها طفلاه الصغيران، وعانى مرضاً عضالاً لم يرحمه في سجنه، أسس لمسار نهضة متجددة، قوتها الثقافة التي تؤهل الإنسان ليشق طريقه للحرية، وتحقيق التقدم. أشعل أضواء الحرية من عتمة ظلام الزنازين. كُتبت عن أعماله عشرات الدراسات والكتب، وترجمت إلى عدد كبير من اللغات، وتأثر بفكره، مفكرون ومثقفون وكتاب وأكاديميون وأدباء في مختلف أنحاء العالم.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أنطونيو غرامشي قوة الثقافة المتجددة أنطونيو غرامشي قوة الثقافة المتجددة



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

هيفاء وهبي تتألق بإطلالات خارجة عن المألوف وتكسر القواعد بإكسسوارات رأس جريئة

بيروت -المغرب اليوم

GMT 01:02 2025 الإثنين ,15 أيلول / سبتمبر

زامير يقدّر أن السيطرة على غزة ستستغرق ستة أشهر
المغرب اليوم - زامير يقدّر أن السيطرة على غزة ستستغرق ستة أشهر

GMT 18:39 2025 الأحد ,14 أيلول / سبتمبر

تامر حسني يتعرض لكسر في القدم ويخفي آلامه
المغرب اليوم - تامر حسني يتعرض لكسر في القدم ويخفي آلامه

GMT 22:50 2024 الثلاثاء ,15 تشرين الأول / أكتوبر

أبرز حقائب اليد النسائية لخريف 2024

GMT 03:34 2021 الثلاثاء ,12 كانون الثاني / يناير

تعرف على أكبر وأهم المتاحف الإسلامية في العالم

GMT 12:20 2024 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

رحمة رياض بإطلالات مريحة وعملية عقب الإعلان عن حملها

GMT 15:53 2023 الجمعة ,13 كانون الثاني / يناير

الين يرتفع بدّعم تكهنات تعديل سياسة بنك اليابان

GMT 07:31 2021 السبت ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شباب الأهلي الإماراتي يخطط لانتداب أشرف بنشرقي

GMT 18:39 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 23:37 2020 الخميس ,09 إبريل / نيسان

كورونا" يسبب أكبر أزمة اقتصادية منذ سنة 1929

GMT 23:46 2019 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

بنك مغربي يصرف شيكا باللغة الأمازيغية

GMT 23:52 2019 الإثنين ,22 تموز / يوليو

الفيضانات تقتل 141 حيوانًا بريًا في الهند

GMT 11:06 2019 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

الكشف عن "ميني كاب"أصغر سيارة إطفاء في العالم
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib