الحروب الثلاث والوعي البديل

الحروب الثلاث والوعي البديل

المغرب اليوم -

الحروب الثلاث والوعي البديل

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

يتملّكنا أحياناً ميلٌ خَلوق إلى استيلاد واقع أمثل يتّحد فيه الخير والخير في مواجهة شرٍّ يتّحد بدوره مع الشرّ، وفي كلٍّ من الجهتين يصطفّ الأصغر الأدنى مرتبة وراء الأكبر الأعلى مرتبة. لكنّ «واقعاً» كهذا لا يصير واقعاً لأنّه أمنية يجذبنا تناسقها الجميل قبل أن تطرحنا محبطين على القارعة. فماذا مثلاً لو طبّقنا المبدأ الجليل هذا وطالبنا الأوكرانيّين برفض معونات الدول الغربيّة تبعاً لموقفها السيّء في الحرب على غزّة، أو لو طالبنا الشعوب التي تئنّ تحت وطأة كوارثها بأن يتّجه تركيزها إلى قضيّة أخرى مُحقّة؟

والمشرق العربيّ طويلاً ما عمل بموجب هذا الاقتراح، وهو أصلاً إملاء الأنظمة الأمنيّة على شعوبها، أتت به من لفظيّتها القوميّة كيما تستخدمه لصالح تمكُّنها وديمومتها. فبموجبه، طُولبَ العراقيّ والسوريّ، وهما في زنازين «البعث»، بالتصدّي للاستعمار والصهيونيّة، وقد أفلحت الأنظمة هذه في مسعاها فكوفئت بحياة مديدة، لكنّها، فوق هذا، حوّلت إملاءها عقلاً عامّاً يفكّر الجميع بالسياسة عبره. هكذا بتنا نرى آخرين مدفوعين باعتبارات نبيلة وبنوايا حميدة يصلون إلى نتائج مشابهة، إمّا عمليّاً أو نظريّاً.

لكنْ إذا صحّ أنّ القضايا المحقّة تلتقي «في النهاية» في مكان ما، ظلّت وظيفةُ السياسة تدبُّرَ هذه الطريق التي قد توصل، ذات يوم، إلى «النهاية» الغامضة تلك. وهذا علماً بأنّ الطريق ملأى بالتعرّجات، وقد تحفّ بها تناقضات بين أبناء القضايا المُحقّة أنفسهم. فالعالم، بدوله ومصالحه وأشكال وعيه وأسباب نزاعاته، كان دائماً أقوى من الأفكار السامية التي تضع الأخيار مقابل الأشرار، والمؤمنون الذين اعتنقوا الأديان ذاتها تحوّلوا مذاهب وفِرَقاً وطوائف، وهذا قبل زمن على انشقاق شيوعيّين ظنّوا أنّهم يقاتلون الشرّ إيّاه إلى روس وصينيّين، وفييتناميّين وكمبوديّين...

لقد أشار كاتب هذه الأسطر، في عمود سابق، إلى حروب ثلاث يعيشها المشرق في وقت واحد: حرب تشنّها إسرائيل على غزّة، وحرب تشنّها إيران ومَلاحقها الميليشيويّة على المشرق، وثالثة تخاض بين إسرائيل وإيران.

والحرب الأولى، ذات البُعد الإباديّ، تستهدف الوجود الوطنيّ الفلسطينيّ بعدما فتحت عمليّة 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 الباب للاستهداف هذا. وهي، في المدى الذي بلغته توحّشاً وثأريّةً، تحضّ على موقف ضميريّ وأخلاقيّ يتضامن مع الضحايا المدنيّين ويساعد على وقف قتلهم تضامنَه مع الهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة.

أمّا الحرب الثانية فتستهدف منطقة تمتدّ من العراق إلى لبنان، بتحويل مجتمعاتها مدى حيويّاً لإيران، وجيوشها ميليشياتٍ ومرتزقة، وحرمان أوطانها كلّ أمل بغد محترم. وهذه أيضاً ذات بُعد إباديّ رأيناه عارياً في سوريّا، ونراه بأشكال أشدّ مواربةً و»لطفاً» في البلدان الأخرى التي تُستنزف منهجيّاً.

وأمّا الحرب الثالثة فمن جنس الصراعات على النفوذ بين بلدين توسّعيّين.

والحروب هذه تتقاطع عند أكثر من محطّة إلاّ أنّها ليست حرباً واحدة ولا حروباً متماثلة.

وأغلب الظنّ أنّ النظرة التي ترى إليها على نحو مستقلّ ومركّب في آنٍ هي الأكثر فائدة، فضلاً عن كونها الأدقّ. ذاك أنّ فرضيّة القضيّة الواحدة، التي تذوب من أجلها القضايا الأخرى وتضمحلّ، تزوّر الواقع بأكثر من معنى، وتزويرٌ كهذا يتبدّى في أوضح أشكاله في تمويه المسائل النزاعيّة التي تنبع نزاعيّتها من تفرّعها عن تعدّد الحروب والقضايا.

فمفهوم القضيّة الواحدة يُفهمنا شيئاً ويسلبنا الوعيَ بأشياء كثيرة تطال التواريخ المحلّيّة ومسار الصراعات ونشأة العداوات واصطفاف المصطفّين، وتُنسينا كيف يكون التدخّل الأجنبيّ مرفوضاً هنا ومطلوباً هناك. وحتّى حين يقال، تنازلاً للواقع، أنّ ثمّة قضيّة مركزيّة لكنّها لا تلغي القضايا الأخرى، يبقى أنّ التجارب تشهد لغير ذلك. ففي ظلّ منح إحدى الحروب سلطة الفتوى على الحروب الأخرى، يغدو مطلوباً غضّ النظر، إن لم يكن الصفح، عاجلاً أو آجلاً، عمّن يقاتل «بجدارة» في الحرب المركزيّة المفترضة. وكثيرون أصدروا مؤخّراً أحكام براءة بحقّ قاتليهم في الحروب الأخرى. وفي خلط كلّ شيء بكلّ شيء، وهو امتداد للتقليد الذي سحق بلداناً وشعوباً وسيادات وطنيّة، تُزجّ أوطان في الحروب غصباً عنها، ويتحوّل زجّها تهديداً للقليل المتبقّي من وحدتها الوطنيّة، فيما يتولّى الكذب الصريح اختراع نتائج حربيّة علينا التظاهر بهضمها، وتناسي حكّام ممانعين ساهموا في جرّنا إلى الفتَن، ثمّ صمتوا حينما اشتعلت الفتنة حرباً. فهذه جميعاً غدت مواضيع تافهة بقياس الحرب المركزيّة!

لهذا قد يكون الأسلم اقتران التضامن الواجب مع غزّة باعتراف متبادل بتعدّد القضايا وبخصوصيّاتها. فمن دون الانطلاق من بلد معيّن وتجربة معيّنة ومزاج معيّن لا تكون المواقف أكثر من أهواء أعمارُها قصيرة. أمّا التنبّه إلى الخطر الكامن في تجاهل الخصوصيّات تلك فليس من مهمّات العقل العداليّ تعريفاً، كما يُستبعد أن يلتفت إليه طالب في جامعة أميركيّة، بيد أنّ أبناء المنطقة الذين تعلّموا من تجاربهم يبقون الأكثر تأهيلاً لأن يدركوه ويستدركوه.

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحروب الثلاث والوعي البديل الحروب الثلاث والوعي البديل



GMT 21:06 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

آخر الرحابنة

GMT 21:04 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

حلّ الدولتين... زخمٌ لن يتوقّف

GMT 21:03 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

«تامر يَجُرّ شَكَل عمرو!»

GMT 21:01 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

رياح يوليو 1952

GMT 20:59 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

لا يجوز في الساحل ولا يليق

GMT 20:58 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

الوزير الخائن دمر الفسطاط (1)

GMT 20:45 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

حرب المساعدات

GMT 11:10 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

حديث الصيف: أيام العرب في الجاهلية

نانسي عجرم تكسر قواعد الموضة في "نانسي 11" بإطلالات جريئة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 19:34 2025 الثلاثاء ,29 تموز / يوليو

فرنسا تندد بمقتل ناشط فلسطيني في الضفة
المغرب اليوم - فرنسا تندد بمقتل ناشط فلسطيني في الضفة

GMT 17:16 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تطرأ مسؤوليات ملحّة ومهمّة تسلّط الأضواء على مهارتك

GMT 16:39 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تعيش ظروفاً جميلة وداعمة من الزملاء

GMT 16:18 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

شؤونك المالية والمادية تسير بشكل حسن

GMT 19:12 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

تبدو مرهف الحس والشعور

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 16:51 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية السنة اجواء ايجابية

GMT 15:14 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 16:19 2020 الجمعة ,10 إبريل / نيسان

انتبه لمصالحك المهنية جيداً

GMT 19:04 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يشير هذا اليوم إلى بعض الفرص المهنية الآتية إليك
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib