مرّة أخرى عن الذكرى الخمسين للحرب اللبنانيّة

مرّة أخرى عن الذكرى الخمسين للحرب اللبنانيّة...

المغرب اليوم -

مرّة أخرى عن الذكرى الخمسين للحرب اللبنانيّة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

قبل أيّام، مع الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب اللبنانيّة، سطعت، من جديد، ثقافةُ التنصّل من المسؤوليّة عنها. وكان غيرُ كاتب ومراقب قد أشاروا إلى بعض تعابير تلك الثقافة التي لا يحول فسادها دون شيوعها.

فالحرب هي «الأحداث» أو «الأحداث المشؤومة» أو «الأليمة»، بحيث يُصار إلى التخفيف من هويّتها الحربيّة والتأكيد على أثرها الشعوريّ، فيما يُجهّل صانعوها الحقيقيّون. وفي هذا التغييب للذات الفاعلة تُجعل تلك الحرب أقرب إلى عمل من أعمال الطبيعة الغامضة حين تجنّ أو تهيج.

كذلك هي «حرب الآخرين على أرضنا»، وفق عبارة شهيرة تُعلنُنا أبرياء وضحايا استعملَنا «الآخرون» أو تلاعبوا بنا في لحظة من لحظات غفلة ألمّت بنا. ولا يخلو الأمر، والحال هذه، من السؤال أن يُلعن «مَن فعل بنا هذا». ومن الصورة تلك انبثقت لاحقاً صورة أخرى عن «الاحتلال الإيرانيّ للبنان». ولئن كان من البديهيّ الحديثُ عن دور إيرانيّ فاعل في تغذية الخراب اللبنانيّ، فهذا لا يعني «احتلالاً» معزّزاً بجنود إيرانيّين، احتلالاً يحجب الأدوار المباشرة للّبنانيّين أنفسهم. ومن هذا القبيل أيضاً ساد لعن الميليشيات الحزبيّة التي «جلبت علينا كلّ هذا الخراب». ومرّةً أخرى فإنّ جواز لعن الميليشيات، بل ضرورته، لا يلغيان أنّ تلك المجموعات المسلّحة كانت أذرع الطوائف في الحرب، تموّلها الطوائف وتحضنها فيما تتولّى هي الدفاع عنها، وأنّ شعبنا «الطيّب» و»البريء» اختار، تبعاً لتوزّعه الطائفيّ، أن يقدّس أربعة أو خمسة من قادة تلك الميليشيات.

ولم تتلكّأ الأدبيّات الأكثر أدلجةً عن هذه المهمّة. فبين آونة وأخرى كان اليسارُ الشعبويّ يحمّل مسؤوليّة الحرب إلى رأسماليّة بنت اقتصاداً غير منتج، بينما يحمّل اليمين الشعبويّ مسؤوليّتها إلى «يسار دوليّ» يوصف بتآمر لا يكلّ على لبنان. وبالطبع ظلّ الأدب السقيم، وهو بالأحرى إنشاء مدرسيّ، يدلي بدلوه فيتّهمَ أشراراً وشياطين عبثوا بأحلامنا وذاكراتنا، مستنكفاً عن كلّ تسمية أو تعيين...

وأمّا المشترك بين تلك الصياغات جميعاً فهو تجنّبها مراجعة حقيقة الحرب، وتالياً عدم مواجهتها المسؤوليّة الذاتيّة عمّا جرى ولا يزال بعضه جارياً. فقليلون هم الذين قالوا بوضوح إنّ مصدر الحرب الأوّل هو ذاك الصدع العميق الذي يضرب الوطنيّة اللبنانيّة، وعدم الاتّفاق حولها الذي ترجع أصوله إلى بدايات تشكّلها. فنحن غير متّفقين على تعريف اللبنات الأساسيّة للاجتماع الوطنيّ، كـ «الوطن» و»الشعب» و»العدوّ» وسواها من المفاهيم. وإنّما من ثقوب هذا الصدع الضخم يتسلّل «الأشرار» الخارجيّون أو «الرأسماليّة الجائرة» أو «اليسار الدوليّ» أو «الاحتلال الإيرانيّ»، كائناً ما كان المقصود بهذه المصطلحات...

والحال أنّ انقضاء خمسين عاماً على الإنكار يقول كم أنّ هذا الإنكار شعبيّ وموضع إجماع، لا سيّما أنّ تلك الأعوام الخمسين أتاحت بضع لحظات توفّرت فيها فُرصٌ للمراجعات الصريحة، لكنّ ما صدر منها كان قليلاً جدّاً ومتأخّراً جدّاً.

والراهن أنّ أكثر من دافع واحد يحرّك ذاك الإنكارَ، في عدادها نرجسيّةٌ متضخّمة تأبى الإقرار بانبثاق الشرّ منها، وخوف الظهور، تحت تأثير الحداثة ومعاييرها، بأنّنا «غير متمدّنين»، لا نليق بالأوطان ولا تليق بنا، وأنّنا قد نشبه ماضي أوروبا لكنّنا حكماً لا نشبه حاضرها. وكان ممّا أتت به تلك الحداثة، ثمّ طوّرته الحركات القوميّة بإفراط ومبالغة، أنّ الشعوب لا بدّ أن تكون عظيمة، فضلاً عن كونها بريئة، وأنّها حين تخطئ، أو لا يسعفها الحظّ، فإنّها لا تكون إلاّ ضحيّة ظالميها والطامعين بها. إلاّ أنّ الجماعات، وإن تحدّثت عن نفسها بوصفها شعوباً وأمماً عظمى، لا تواجه المسؤوليّة الناجمة عن رفضها التحوّلَ إلى شعوب ودول – أمم، وعن إحجامها عن تغليب هذه الصفة على الصفات الأدنى من طائفيّة وإثنيّة وسواهما.

بيد أنّ المواظبة طوال خمسين عاماً على إنكار المشكلة الفعليّة، وإنكار أنّنا نحن مَن يصنعها، إنّما تنمّ عن أنّنا لا نريد فعلاً تذليلها لأنّنا لا نريد الاستقالة من مهمّتنا كصانعين لها. فقد نسعى إلى التغلّب على بعض نتائجها المُرّة التي لا يُحتمل العيش معها، لكنّ حلّها بتفادي تكرارها يبقى شيئاً آخر يقارب الخيال.

لقد رأى مالكولم كير، الدارس الأميركيّ للشرق الأوسط، أنّ الحرب اليمنيّة في مطالع الستينات كانت الحرب الأهليّة العربيّة الأولى في العصر الحديث. والمؤكّد أنّ الحرب اللبنانيّة كانت الحرب الكبرى الثانية في زمن ما بعد استقلالات العالم العربيّ. ولا يزال البلدان المذكوران، كلٌّ بطريقته، يعيشان انقسامهما الصامت أو الصارخ. وها هي بلدان عربيّة متكاثرة العدد تسجّل أسماءها على لوائح الشرف الدمويّ التي يرصّعها كلام كثير عن «الأهل» و»الإخوة» و»الأخوّة»، وطبعاً عن «مؤامرات الاستعمار على أمّتنا» التي لا تنضب ولا يدركها التعب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مرّة أخرى عن الذكرى الخمسين للحرب اللبنانيّة مرّة أخرى عن الذكرى الخمسين للحرب اللبنانيّة



GMT 20:19 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

‎قمة الدوحة.. نريدها إجراءات وليست بيانات

GMT 20:16 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

سدودنا فارغة وسرقة المياه مستمرة

GMT 20:12 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

تاريخ «لايت»

GMT 20:10 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

ما بعدَ هجوم الدوحة

GMT 20:08 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

بول بوت... جنون الإبادة الذي لا يغيب

GMT 20:07 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

ربع قرن على هجمات 11 سبتمبر

GMT 20:05 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

انزلاقات المرحلة

GMT 20:03 2025 السبت ,13 أيلول / سبتمبر

أميركا... معارك الرصاص لا الكلمات

أحلام تتألق بإطلالة ملكية فاخرة باللون البنفسجي في حفلها بموسم جدة

جدة - المغرب اليوم

GMT 07:06 2025 الإثنين ,08 أيلول / سبتمبر

توقعات الأبراج اليوم الأحد 07 سبتمبر/ أيلول 2025

GMT 05:58 2020 السبت ,29 شباط / فبراير

مناخا جيد على الرغم من بعض المعاكسات

GMT 06:18 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحمل الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 12:40 2014 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

الاستحمام بالنبيذ الأحمر يمنع التجاعيد
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib