ترمب ودولة الملخص التنفيذي

ترمب ودولة الملخص التنفيذي

المغرب اليوم -

ترمب ودولة الملخص التنفيذي

مأمون فندي
بقلم : مأمون فندي

أكتب من واشنطن هذه المرة، وعن واشنطن عاصمةِ العالم، عالمِ الرئيس دونالد ترمب، الرَّجل الذي استطاع أن ينجزَ وقفَ إطلاق النَّار في غزةَ من خلال مؤتمر السلام في شرم الشيخ، الرَّجل الذي يطمح إلى إنهاء الصراع في أوكرانيا في قمة المجر المرتقبةِ بين ترمب وفلاديمير بوتين. كلُّ هذا مبهر حقاً، ولكن هل تحت القبة شيخ، كما نقول بالعامية المصرية؟ الإجابة باختصار: لا.

لكي نصل إلى هذه الإجابة، من حق القارئ أن يعرف ماذا يجري في واشنطن، وما الاختلاف بين إدارة ترمب وغيرها منذ كيندي حتى بايدن؟ أميركا اليوم، كما سمعت من الكثيرين، غير أميركا التي كنا نعرفها. أميركا تقف في المساحة الضبابية، لم تعد هي أميركا الأبيض والأسود، أميركا الفصل بين السلطات، رغم تعطيل الحكومة ورغم المظاهرات ضد «ترمب الملك». أميركا التي عرفها المثقفون في أوروبا والجنوب العالمي ليست أميركا ترمب. وهذه نقطة مهمة يجب أن يفهمها صانع السياسة العربي، خصوصاً للتعامل مع هذه الإدارة بطريقة كي تحقق إنجازاً ما، ولكل دولة حساباتها وأهدافها.

بداية لمثقفي وزارات الخارجية العربية ولأقسام التخطيط السياسي، أميركا ترمب لا تعترف بالتاريخ الدبلوماسي تفسيراً للأحداث، ولا قراءة تاريخ الإمبراطوريات ومدى تأثير ذلك على العلاقات الدولية ودور أميركا في العالم، من رؤية ولسون وحق تقرير مصير الشعوب، حتى جوزيف بايدن. كل هذا لا يعني الكثير، الآن.

أميركا ترمب لا تهتم بقراءة التاريخ، أميركا ترمب هي دولة الملخص التنفيذي، إذ كل ما يطلبه ترمب أو مساعدوه الكبار ممن يعملون معه هو صفحة واحدة تلخص الصراع في أوكرانيا أو في غزة، أو حتى الشرق الأوسط كله. صفحة واحدة لا غير.

إدارة ترمب، التي يمثلها مليارديرات العقارات؛ من ستيف ويتكوف حتى ترمب نفسه، تنظر إلى وكيل وزارة الخارجية أو مساعد الوزير لشؤون الشرق الأوسط في إطار سؤال القذافي الشهير: «من أنتم؟»؛ أي كم تتقاضى في الشهر؟ فمرتبك أدفعه لعاملة في منزلي. فما الذي يمكن أن تعلّمني إياه من خلال محاضرة عن الدولة العثمانية أو عن التاريخ الإسلامي كله؟ ما الذي يمكن أن تشرحه لي عن روسيا القيصرية أو عن الدولة البيزنطية أو سايكس بيكو التي قسمت القبائل إلى دول، كما سمعنا من توم براك في لبنان؟ «اختصرْ لي الأمر في صفحة واحدة، وأشِر لي بما يمكن فعله خلال زيارة لمدة يوم في الشرق الأوسط، ولماذا هذا العالم في حروب منذ ثلاثة آلاف سنة، على حد قول ترمب، وكيف أحلُّ هذا الصراع في لقطة تلفزيونية حاسمة؟»، ليس مطلوباً أكثر من هذا.

إذن، مجلس الأمن القومي و«الخارجية» والبنتاغون والتخطيط السياسي، كل هذا لا يعني الكثير في واشنطن الجديدة. حتى لو توقفت الأجهزة الفيدرالية عن العمل، كما هي حال واشنطن الآن، نستطيع أن نحقق صفقة رابحة. أعطني الملخص التنفيذي فقط ولا شيء غيره.

هذا النمط من الحكم ليس مجرد أسلوب إداري، بل هو تحوّل بنيوي في مفهوم الدولة الحديثة في الولايات المتحدة. فـ«دولة الملخص التنفيذي» ليست شعاراً، بل نموذج جديد في ممارسة السلطة، حيث تُختصر المعادلات التاريخية والجغرافية والسياسية في سطرين قابلين للتنفيذ. هذه الدولة لا تُبنى على تراكم المعرفة والخبرة البيروقراطية، بل على سرعة القرار وفورية الفعل، متأثرة بثقافة السوق، لا بفلسفة الدولة. والأهم أن كل هذا يحدث في لقطة تلفزيونية تعرضها الشاشات على مستوى العالم، ويتناقله المؤثرون في السوشيال ميديا. في دولة الملخص التنفيذي، التاريخ مجرد خلفية تزيينية في العرض التقديمي (PowerPoint) أمام الرئيس أو رجل الأعمال الذي يدير الدولة كما يدير مشروعاً عقارياً.

من منظور أكاديمي، يمكن القول إننا أمام ما يسميه علماء السياسة «تحوّل الحوكمة من المعرفة إلى الإدارة»؛ أي أن مركز القرار لم يعد في المؤسسات التي تنتج المعرفة، بل في مكاتب التنفيذ السريع، حيث يُكافَأ مَن يختصر، لا مَن يحلّل. في مثل هذه الدولة، يصبح المستشار الذي يقدّم ملخصاً من صفحة واحدة أكثر تأثيراً من الباحث الذي يكتب تقريراً من مائة صفحة. إنَّها دولة تُفضل الإيجاز على العمق، والنتيجة السريعة على البناء البطيء للمواقف.

هذه الظاهرة ليست أميركية فقط، لكنَّها في واشنطن أكثر وضوحاً؛ لأنَّها تمسّ عاصمة النظام الدولي كله. فمنذ وودرو ولسون، وحتى باراك أوباما، كانت أميركا تُدار بمزيج من المؤسسات والتاريخ والرمزية. أما اليوم، فالتاريخ والدبلوماسية أصبحا عبئاً على الرئيس الذي يرى في كل صراع معادلة تجارية يمكن أن تُحلّ في اجتماع أو تغريدة. لم تعد أميركا تسأل «لماذا؟»، بل «كيف؟»، وكيف بسرعة.

النتيجة أن السياسة الخارجية الأميركية باتت أشبه بإدارة أزمة إعلامية دائمة، لا مشروع استراتيجي طويل المدى. وقف إطلاق النار في غزة أو قمة المجر بشأن أوكرانيا قد يبدوان إنجازين، لكن السؤال هو: ما الذي يبقى بعد اللقطة التلفزيونية؟ فحين تُختزل السياسة إلى ملخص تنفيذي، تغيب الرؤية ويُمحى السياق. ما يهم هو المشهد الأخير، لا الفصول التي سبقته.

هكذا تتحول واشنطن من مدينة القرار إلى مدينة العرض. كل شيء فيها بات قابلاً للتقديم على شاشة. وهذا بدوره يُعيد تعريف مفهوم «الخبرة»: لم تعد الخبرة عمقاً معرفياً، بل قدرة على التبسيط الفوري. إن «الخبير» في دولة الملخص التنفيذي هو من يستطيع تلخيص ثلاثين عاماً من الصراع في فقرة، لا من يستطيع قراءته قراءة مركّبة.

ولعل السؤال الأهم: هل تحت هذه القبة «شيخ»، كما نسأل في مصر؟ أي هل هناك من يملك حكمة الدولة وذاكرة التاريخ؟ الإجابة ما زالت: «لا»، فالمؤسسات أصبحت بلا تقاليد متوارثة، والرئيس لا يستدعي تراث الدولة بل ملخصاتها. لقد أصبحت الحكمة القديمة غير مطلوبة؛ لأن السوق السياسية لا تمنح وقتاً للتأمل، بل للمباشرة والصفقة والنتيجة الفورية.

غير أن الخطر الحقيقي لدولة الملخص التنفيذي لا يقتصر على أميركا، بل ينسحب على العالم كله، فإذا كانت واشنطن تدير العالم بصفحة واحدة، فكيف يمكن أن تستقر مناطق معقدة مثل الشرق الأوسط أو شرق أوروبا؟ إن من يختصر التاريخ إلى ملخص، يختصر أيضاً المسؤولية، ويحوّل السياسة إلى عرض مؤقت لا إلى رؤية دائمة.

في النهاية، ما نراه اليوم في واشنطن هو اختبار لمستقبل الدولة الحديثة نفسها: هل تستطيع البيروقراطيات والمؤسسات أن تصمد أمام إغراء الملخص التنفيذي؟ أم أننا دخلنا زمن «الصفحة الواحدة» الذي يُختصر فيه كل شيء؛ من السياسة إلى الأخلاق، إلى مجرد صفحة واحدة؟

العالم يصفق للسرعة، لكن التاريخ لا يُكتب بالاختصار. وإن كانت واشنطن اليوم قد اختارت أن تحكم بالملخص التنفيذي، فالتاريخ سيحتاج لأكثر من صفحة واحدة ليحكم على نتائج ذلك. ومع ذلك فالنصيحة لمن يتعاملون مع دولة الملخص التنفيذي هي عدم الإغراق في الجدية، فقط الإبهار في العرض ولا تُضيعْ وقتك مع العلماء، فكل ما تحتاج إليه هو مماكس من معرض سيارات مستعملة، يمكن أن يبيع لك المستعمل على أنه جديد، ليس جديداً فحسب، بل آخِر اختراع توصلت إليه المعارف الإنسانية.

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ترمب ودولة الملخص التنفيذي ترمب ودولة الملخص التنفيذي



GMT 15:23 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

عفواً سيّدي الجلاد

GMT 15:21 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

الفوسفات والذنيبات والمسؤولية المجتمعية تصل البربيطة

GMT 15:18 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أبو دلامة وجي دي فانس

GMT 15:07 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

العودة إلى إسحق رابين

GMT 14:59 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

من الساحل إلى الأطلسي: طريق التنمية من أجل الاستقرار

GMT 14:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

فضيحة في تل أبيب!

GMT 14:45 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تفرح بافتتاح المتحف الكبير (1)

GMT 14:42 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

شخص غير مرغوب فيه

نجمات مصريات يجسّدن سحر الجمال الفرعوني في افتتاح المتحف المصري

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 10:46 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة
المغرب اليوم - أفضل الوجهات العربية لقضاء خريف معتدل ومليء بالتجارب الساحرة

GMT 13:31 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط
المغرب اليوم - طرق ذكية لتعليق اللوحات دون إتلاف الحائط

GMT 18:26 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير
المغرب اليوم - بوريس جونسون يهاجم بي بي سي ويتهمها بالتزوير

GMT 07:55 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

إعادة فتح مطار بروكسل بعد توقف مؤقت نتيجة رصد طائرات مسيرة
المغرب اليوم - إعادة فتح مطار بروكسل بعد توقف مؤقت نتيجة رصد طائرات مسيرة

GMT 18:52 2025 الثلاثاء ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي
المغرب اليوم - خبراء التغذية يوصون بمشروبات طبيعية لتحسين الأداء الإدراكي

GMT 01:36 2025 الأربعاء ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد حلمي وهند صبري في أول تعاون سينمائي بأضعف خلقه
المغرب اليوم - أحمد حلمي وهند صبري في أول تعاون سينمائي بأضعف خلقه

GMT 20:20 2019 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

4 أصوات تشير إلى أعطال في محركات السيارات

GMT 06:27 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

دراسة تؤكّد تأثير حجم المخ على التحكّم في النفس

GMT 21:07 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

"سباق الدراجات" يدعم ترشح المغرب للمونديال

GMT 01:40 2018 السبت ,10 آذار/ مارس

رجل يشكو زوجته لسوء سلوكها في طنجة

GMT 05:32 2017 الأربعاء ,03 أيار / مايو

محمود عباس فى البيت الأبيض.. من دون فلسطين!

GMT 06:27 2016 الجمعة ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

باكستان تُبعد صاحبة صورة ناشيونال جيوغرافيك الشهيرة

GMT 04:19 2016 الإثنين ,05 كانون الأول / ديسمبر

"فرزاتشي Versaci" تطلق مجموعتها الساحرة لعام 2017

GMT 07:02 2017 الجمعة ,20 تشرين الأول / أكتوبر

فيلم الرعب الأميركي "Happy Death Day" الأول على شباك التذاكر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib