السياسة وعقل الدول

السياسة وعقل الدول

المغرب اليوم -

السياسة وعقل الدول

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

حلقات الزمن، تعجّ بالبحار والأنهار والبحيرات والأعاصير، وغيرها مما تتلوى فيها الأحداث والأزمات الكبيرة والصغيرة. الحرب هي المطرقة النارية الضخمة، التي تهوي بها يد القوة على خصم قريب أو بعيد. في مطلع ستينات القرن الماضي، حبست الدنيا أنفاسها عندما اكتشفت طائرات تجسس أميركية، وجود أسلحة نووية سوفياتية، على الأراضي الكوبية. الرئيس الأميركي الشاب جون كيندي، رفع مطرقة التهديد النارية، وعبأ قوته لمواجهة ما قام به الزعيم السوفياتي المندفع نيكيتا خروتشوف. تدحرج الموقف بسرعة نحو صِدامٍ آتٍ بين القوتين النوويتين العظميين على وجه الأرض. وزير الدفاع الأميركي وقتها روبرت ماكنمارا، مال إلى ضفة الدبلوماسية الخشنة، في حين اندفع الرئيس الشاب كيندي، إلى حلبة المنازلة الصفرية مع غريمه المزاجي السوفياتي نيكيتا خروتشوف. تفكيك الأسلحة النووية السوفياتية، التي نُصبت على مرمى النظر من الساحل الأميركي، كان مطلب الرئيس كيندي غير القابل للنقاش. تراجع في النهاية خروتشوف، ووافق على الطلب الأميركي، بعدما قام وزير الدفاع روبرت ماكنمارا، بتقديم مشروع سياسي للتسوية، يقوم على ترتيبات عسكرية في المنطقة الساخنة على الحدود السوفياتية؛ لحفظ ماء هيبة وجه وقبضة خروتشوف العنترية. تنفس العالم نسمة سلام استردها، بفعل الخيارات السياسية، من قبضة انفعالات القوة الكبرى الرهيبة.

الخيارات السياسية في ساعات الطواف حول حافة الهوية القاتلة، تتحرك على عجلات البدائل، مُرّها وحلوها وما بينهما. حماية الأمن الوطني للبلاد، هي الهدف الأساسي من بناء القوة في كل كيان وطني. الدفاع عن المصالح الاقتصادية للدولة، لا يغيب عن حسابات السياسيين، لكن بما لا يؤدي إلى تكلفة بشرية ومالية، تفوق حجم ما ينفق على حماية مصالح الأمة. تلك هي أعمدة سياسة توظيف القوة المسلحة. وزير الخارجية مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق هنري كسنجر، تبنى ذات المعادلات السياسية التي سبقه إليها، وزير الدفاع في عهد الرئيس كيندي، روبرت ماكنمارا. بعد حرب دموية طويلة، خاضتها الولايات المتحدة الأميركية في فيتنام، ضد مقاتلين وطنيين شيوعيين فيتناميين، مدعومين من الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية. كانت تلك المواجهة، حرباً عالمية ساخنة، في زمن الصراع البارد بين القوى الكبرى. هنري كسنجر قفز إلى خندق النار الفيتنامي، من زاويته الصينية، وأقنع رئيسه ريتشارد نيكسون، بزيارة بكين واللقاء بالزعيم العجوز ماو تسي تونغ. الأزمات الكبيرة تنبت في حقول الرؤوس المالكة قوة السلاح والمال والقرار، وإبطال مفاعيلها يبدأ بمعرفة كيمياء ما نبت في الرؤوس الفاعلة. إدارة الأزمات هي معارك لا تترك للعسكريين وحدهم، بخاصة عندما يكونون صغاراً نزقين قفزوا إلى السلطة في ظلام ليل صامت.

في بلدان العالم الثالث التي نالت استقلالها بعد قرون من الاستعمار. استوطن الجهل والعوز وغابت قوة الهويات الوطنية، وكانت الجماعات العرقية والطائفية هي الحاضر الأقوى، ولم تنبعث المجتمعات المدنية، وصارت الجيوش هي القوة المنظمة الوحيدة في البلدان الحديثة الاستقلال. صارت سلطة الحكم، هي المعترك المحرك لمن يمتلك السلاح. شهدت القارة الأفريقية الانقلابات العسكرية الأكثر في العالم، وترسخت كيانات الاستبداد والتخلف والمعاناة المزمنة. غابت مؤسسة الدولة، ونسيج المجتمع المدني الفاعل في جوارحها. بعد سنوات من مغادرة المستعمر أراضي البلدان العربية، شهد بعضها جهوداً صادقة لإقامة أسس الدولة، وسخّر قادتها ما تيسر لهم من إمكانيات للتعليم والصحة والبنية التحتية. كرَّسوا سيادة القانون والمساواة بين المواطنين، وتفادوا الصدام مع القريب والبعيد. بلا شك كانت إدارة تكوين جديد، من دون خبرة سابقة، تحتاج إلى قوة العقل، وتوظيف الفراسة المتوارثة، والتواصل مع الشيوخ والأعيان، وفتح أبواب الأمل والتحفيز للشباب. تحقق قدر واعد من السلام الاجتماعي، وتحركت إرادة البناء والتنمية. ضربات ثقيلة هوت على بعض الكيانات الوليدة. ضباط صغار أو متوسطو الرتب، انتزعوا السلطة بانقلابات عسكرية، وساد عنف القوة، وزغردت الشعارات والأناشيد في الآذان، وتحكمت العواطف والأحلام في خلايا الوجدان، ونمت العداوات بين الدول التي تغيرت عناوينها، وارتبكت الأهداف.

عقود اهتزت فيها أركان البنيان السياسي والاقتصادي والاجتماعي. تراكمت الأزمات، من دون أن يفيق من يجلسون فوق كراسي القرار، بخطورة الجرف الهاري الذي يندفعون له، وتلاحقت الهزائم وتخلخل البنيان، وصارت الأزمات هي الكائنات الوحيدة التي تنمو من دون توقف. أميركا اللاتينية، أصاب بعضها المس نفسه من الانقلابات العسكرية، لكن ناقوس اليقظة كان أعلى، وبدأت مرحلة ضوء الواقعية، وتراجعت قبضات الديكتاتوريات والعسف الدموي.

الحياة مسيرة طويلة شاقة، بين شقوق الامتحانات التي لا تتوقف، بما فيها من جهد صراع وانتصارات وانكسارات. القادة العقلاء الذين يحسبون قراراتهم، ويوازنون بين المصالح والتكلفة، هم من يشعلون الأضواء في مسارات النهوض والتقدم. قال أبو الأسود الدؤلي:

لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سراةَ لهم

ولا سراةَ إذا جُهّالُهم سادوا

والبيتُ لا يُبنى إلا لهُ عمدُ

ولا عِمادَ إذا لم ترسَ أوتادُ

فإن تجمَّع أوتادُ وأعمدةُ

لمعشرٍ بلغوا الأمر الذي كادوا

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السياسة وعقل الدول السياسة وعقل الدول



GMT 17:11 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

الأردن في مواجهة أوهام إيران والإخوان

GMT 17:10 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

يوم وطني في حرثا

GMT 17:08 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

مفكرة القرية: القرد وعايدة

GMT 17:07 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

تعفّن الدماغ... وحبوب الديجيتال

GMT 17:06 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

ثلاثة مسارات تغيير في الشرق الأوسط

GMT 17:03 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

أي كأس سيشرب منها كل من خامنئي وترمب؟

GMT 17:02 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

«كايسيد»... آفاق مشتركة للتماسك الاجتماعي

GMT 17:00 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

المستفيدون من خفض سعر الفائدة

تنسيقات مثالية للنهار والمساء لياسمين صبري على الشاطيء

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 21:54 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

زيلينسكي يعلن موقفه من هدنة "عيد الفصح"
المغرب اليوم - زيلينسكي يعلن موقفه من هدنة

GMT 19:44 2025 السبت ,19 إبريل / نيسان

فضل شاكر يطلق أغنيته الجديدة “أحلى رسمة”
المغرب اليوم - فضل شاكر يطلق أغنيته الجديدة “أحلى رسمة”

GMT 23:53 2020 الأحد ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

لاعب الأهلي المصري وليد سليمان يعلن إصابته بكورونا

GMT 06:34 2018 الأحد ,03 حزيران / يونيو

النجم علي الديك يكشف عن "ديو" جديد مع ليال عبود

GMT 02:20 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

الدكالي يكشف إستراتيجية مكافحة الأدوية المزيفة

GMT 02:12 2018 الأربعاء ,10 كانون الثاني / يناير

مي حريري تكشف تفاصيل نجاتها من واقعة احتراق شعرها

GMT 04:04 2017 الأحد ,03 كانون الأول / ديسمبر

الفيلم السعودي 300 كم ينافس في مهرجان طنجة الدولي

GMT 06:00 2017 الأربعاء ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار جديدة لاستخدام القوارير الزجاجية في ديكور منزلك

GMT 02:38 2017 الخميس ,26 كانون الثاني / يناير

زيادة طفيفة في التأييد العام للسيدة الأولى ميلانيا ترامب

GMT 14:00 2023 السبت ,25 آذار/ مارس

عائشة بن أحمد بإطلالات مميزة وأنيقة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib