المغاربة والعلمانية قراءة في نتائج دراسة ميدانية

المغاربة والعلمانية: قراءة في نتائج دراسة ميدانية

المغرب اليوم -

المغاربة والعلمانية قراءة في نتائج دراسة ميدانية

احمد عصيد

كنت دائما أقول إن المغاربة علمانيون في معظمهم، لكنهم لا يعرفون ذلك لسببين : الأول أنهم يفكرون في النموذج الفرنسي لا غير، والثاني ، لأنهم يعتقدون أن العلمانية هي رفض الدين وفصله عن المجتمع، ولا يميزون بين الحديث عن الدولة والمؤسسات والمجال العام، والحديث عن المجتمع وحياة الأفراد واختياراتهم، أي المجال الخاص. ولهذا تتغير أجوبة المغاربة بتغير طريقة طرح الأسئلة عليهم، فإذا قلت لأحدهم: هل تقبل بالعلمانية ؟ يقول: لا، وإذا سألت نفس الشخص: هل تقبل استعمال الدين في الدولة وفي السياسة يقول: لا.

ثمة إذن خلط كبير يستغله المحافظون الإسلاميون الذين يعتبرون العلمانية خطرا على مشروعهم السياسي، فيحاولون إيهام الناس بأن العلمانية مرادفة للإلحاد ونبذ الدين من المجتمع، في الوقت الذي يعرف فيه الكثير منهم حقيقة الأمر، ويخفونه عن الناس.

وعوض أن يقوم العلمانيون بتوضيح المفهوم وشرحه وتبسيطه والتعريف بمضامينه الحقيقية، يفضلون تجنبه واستعمال مفهوم الديمقراطية الذي يحيل عليه ويرتبط به، مما جعل الإسلاميين يقومون بتحريف مفهوم الديمقراطية نفسه باختزاله في "صناديق الاقتراع"، أي عملية التصويت التي ليست إلا إحدى آليات الديمقراطية وتقنياتها، والهدف هو فصل الديمقراطية عن قيمها العلمانية التي لا تقوم بدونها : احترام الآخر، والتدبير السلمي للتعددية، والقبول بالاختلاف العقدي والثقافي والسياسي، والمساواة في إطار المواطنة، وإقرار الحريات الفردية والجماعية واحترامها، وفصل السلط، وسمو القانون، وعقلنة تدبير الشأن العام...

هذا ما يفسر نتائج الدراسة التي أنجزها المركز العربي للأبحاث والسياسات بالعاصمة القطرية، والذي يشرف عليه المفكر العربي عزمي بشارة، وهي الدراسة التي شملت 14 بلدا من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وتم خلالها استجواب أكثر من 26618 شخصا في مختلف هذه الدول، بمن فيهم المغاربة الذين أكد 58 في المائة منهم أنهم يعارضون فكرة فصل الدين عن الدولة، بينما عبر 79 في المائة منهم في نفس الوقت عن رفضهم لاستعمال الدين في السياسة، كما عبر 69 في المائة منهم عن رفضهم لمنطق التكفير والتهديد الذي يعتمد مرجعية دينية، وأكد 52 في المائة منهم أنه "لا فرق لديه بين شخص متدين أو غير متدين". وهو ما بدا للبعض تناقضا غريبا، بينما يعبر في الواقع عن عدم فهم الناس لمعنى العلمانية، بسبب التشويش المحيط بهذا المفهوم، كما يبرز تهافت موقف من يعتبر المجتمع كله "جماعة" منسجمة ذات توجهات مطابقة لأتباع الإسلام السياسي.

أهمية الدراسة أنها تنهي أسطورة 99,99 في المائة التي يتسابق المحافظون في استعمالها لإسكات الأصوات النقدية والمعارضة للممارسات المخلة بالكرامة، وهو الرقم الذي قلنا دائما إنه لا يقوم على أي أساس واقعي أو منطقي، لأن الغرض منه لا يتعدى قمع الخصوم ودفعهم إلى التزام الصمت، تماما كمثل الانتخابات التي كانت تنظمها الأنظمة العسكرية العربية، والتي كانت تتمخض دائما عن نتيجة 99,99 في المائة من محبي الرئيس الذين لا يمكنهم العيش بدونه.

الدراسة المذكورة تقول إن 58 في المائة من المغاربة يرفضون فصل الدين عن الدولة، ثم تعود فتقول إن 79 في المائة منهم يرفضون طريقة استعمال الدولة للدين في السياسة، ما الفرق بين فصل الدين عن الدولة وبين عدم استعماله في السياسة ؟

الكثير من المغاربة يفهمون الفصل بين الدين والدولة على أنه نوع من الحظر للدين في المجتمع، أو منع الناس من التدين، أو من ممارسة شعائرهم الدينية، والكثيرون من المغاربة أيضا يرون في استعمال الدين في السياسة تحايلا على الناس ومسا بالدين وبقدسيته.

يمكّننا هذا من تدقيق موقف المغاربة من العلمانية، فهم يرفضون المفهوم لأنهم لا يحيطون بكل أبعاده الفلسفية والقانونية، لكنهم يعيشونه يوميا من خلال موقف رفض استعمال الدين في السياسة، لأن العلمانية في النهاية ليست حظرا للدين في المجتمع، بل هي إقرار لمبدإ حياد مؤسسات الدولة تجاه الدين.

يفسر هذا أيضا السبب الذي يجعل الإسلاميين (أي الذين يريدون إقامة الدين في الدولة على الطريقة القديمة ) مجرد أقلية في المجتمع، يطلق عليهم الناس إسم "الخوانجية" تمييزا لهم عن عامة المسلمين، الذين ينفرون من استعمال الدين لأغراض سياسية.

إن الرهان إذن بالنسبة للعلمانيين أو الإسلاميين على السواء هو على هذه الفئة العريضة من المواطنين الذين يبدو في ظاهر خطابهم أنهم أميل إلى الإسلاميين، بينما يظهرون في سلوكهم اليومي وقناعاتهم العملية أنهم أقرب إلى العلمانيين. وأعتقد أن العامل الذي يمكنه الحسم في هذا التذبذب الفكري والإيديولوجي هو التواصل والحوار ونشر المعارف، وهذا بحاجة إلى تحرير الناس من الوصاية والخوف، وتحرير وسائل الإعلام من السلطة، وبناء المنظومة التربوية على أساس قيم الفكر العلمي والاختلاف والتبادل والحوار، عوض الاتباع والتنميط والخرافة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المغاربة والعلمانية قراءة في نتائج دراسة ميدانية المغاربة والعلمانية قراءة في نتائج دراسة ميدانية



GMT 23:14 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

ذاكرة الرجل الصامت

GMT 23:12 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

إسرائيل... لماذا تفوَّقت في لبنان وليس في اليمن؟

GMT 23:10 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

مشهد الشرق الجديد... من يرسمه؟

GMT 23:07 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

سبب آخر للاستقالة

GMT 23:05 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

البديل الحوثي للبنان...

GMT 23:04 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

التجويع بهدف التركيع

GMT 23:02 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

إلى متى ستعيش إسرائيل في رعب وتوجُّس؟

GMT 23:00 2025 الأربعاء ,04 حزيران / يونيو

ماذا لو رد «الجميل» السلام؟!

أمينة خليل تتألق بفستان زفاف ملكي يعكس أنوثة ناعمة وأناقة خالدة

القاهرة - سعيد الفرماوي

GMT 18:02 2019 الثلاثاء ,27 آب / أغسطس

طاليب يغير البرنامج التدريبي للجيش الملكي

GMT 03:11 2019 الإثنين ,08 تموز / يوليو

طريقة تحضير الأرز الأبيض بأسلوب بسيط

GMT 21:58 2019 الثلاثاء ,18 حزيران / يونيو

فساتين صيف تزيد من تميز إطلالتك من "ريزورت 2020"

GMT 07:30 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

ظافر العابدين يكشف أسباب وقف تصوير فيلم "أوف روود"

GMT 11:52 2018 الإثنين ,29 تشرين الأول / أكتوبر

الإمارات تصدر قانون جديد للمصرف المركزي والأنشطة المالية

GMT 18:34 2018 الخميس ,18 تشرين الأول / أكتوبر

سُلطات مليلية تبحث عن عائلة طفل قاصر مُصاب بمرض خطير

GMT 16:40 2018 الجمعة ,12 تشرين الأول / أكتوبر

جزيرة "أرواد" السورية تكشف نظرية جديدة بشأن سفينة نوح
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib