عصر العلاقات الأفقية

عصر العلاقات الأفقية

المغرب اليوم -

عصر العلاقات الأفقية

آمال موسى
بقلم - آمال موسى

عرفت ثقافة القيم العموديّة مع هبوب رياح الحداثة هزات متتاليّة ما فتئت تقضي تدريجياً على نمط الحياة والعلاقات القائمة على التصور العمودي. فالمجتمعات التقليدية مثلاً هي مجتمعات عمودية بالمعنى الثقافي والاجتماعي للكلمة. ومن مظاهر النمط العمودي نذكر العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والأب والابن، والمعلم والتلميذ، والأستاذ والطالب، وصاحب المشروع والعمال... أي علاقات قائمة على تلقي الأوامر من الفوق، لذلك فهي توصف بالعمودية. وطبعاً الثقافة ذات الهندسة العمودية حكمت العلاقات الاجتماعية وأنتجت علاقات قائمة على الهيمنة والخضوع.
إذن الفكرة الأولى المراد الإشارة إليها تتمثل في كون العلاقات العمودية خاصية المجتمعات التقليدية الشموليّة، في حين أن ما تقترحه الحداثة من خلال قيمها وتصورها الجديد للفرد كمحور البنى الاجتماعية وكفاعل اجتماعي مستقل ومحرك للفعل الاجتماعي وفق أهداف تُوصف بالعقلانية، هو نمط جديد ومختلف ومعارض تماماً يطلق عليه نمط العلاقات الأفقيّة.
فالحداثة ترفض العلاقات القائمة على الهيمنة والتي تنتج عنها قرارات فوقية.
كما يختلف التغيير الذي أصاب العصر الحديث من الفضاء الأوروبي إلى الفضاء العربي والإسلامي، بل إنه يمكن القول بثقة إن كل فضاء ثقافي مجتمعي لديه وتيرة خاصة في التفاعل مع قيم الحداثة وأنظمة الفعل الاجتماعي المقترحة.
ويتجه النضال القيمي الحقوقي اليوم وفي كل أرجاء العالم نحو التصور الأفقي في مقاربة العلاقات وبلورة الفعل الاجتماعي سياسياً كان أو ثقافياً، من ذلك مثلاً أن مؤسسة الأسرة بوصفها النواة الأساسية للمجتمع أصبحت اليوم تقوم على العلاقات الأفقية سواء في العلاقة بين الزوجين أو بين الأولياء والأطفال. وهو ما يعني أن البناء الأبويّ يعرف من عقود تراجعاً وأصبح الأولياء يقيمون علاقات أفقية مع أطفالهم. وفي مقابل ذلك فإن الأولياء الذين ما زالوا يمارسون تصور العلاقة العمودية مع الأبناء تنتج عن ذلك ظواهر اجتماعية أهمها التوتر بين الأولياء والأبناء ويشتد هذا التوتر عند بلوغ الأطفال مرحلة المراهقة. كما نشير أيضاً إلى أن التشريعات الخاصة بالطفولة في العالم اليوم تستند إلى التصور الأفقي الذي يتمظهر بدوره في الحوار والنقاش والنقد والإنصات المتبادل والتفاوض...
وإلى جانب كون الأفقية هي نظرة العصر الحديث والراهن فمن المهم مقاربة هذه المسألة في بُعدها الوظيفي، حيث إن العلاقات بين المؤسسات والهياكل الرسمية وغير الرسمية تشترط اليوم العمل أفقياً، بمعنى أن الهدف واحد، ولكن المتدخلين كثر. لا تستطيع اليوم مثلاً وزارة واحدة وإن كانت معنية بقطاع معين أن تعالج مشكلات القطاع برمّتها. ونلحظ أن الحاجة إلى التشبيك والتعاون لم تعد ترفاً بل ضرورة من أجل بلوغ الأهداف. ويمكن أن نضرب المثال التالي:
ظاهرة العنف ضد المرأة إنما تعالَج اليوم من وزارات المرأة والعدل والداخلية والثقافة والصحة. أيضاً العمل الدبلوماسي اليوم لم يعد يقتصر على السياسي الدولي فقط، بل إن الأصل في العمل الدبلوماسي اليوم الاقتصاد والثقافة والسياحة، وهو ما يشترط وجوباً تكاتف الجهود والأدوار بين هياكل مختلفة تتعاون أفقياً من أجل تجسيد دبلوماسية ناجحة متعددة الأبعاد.
وبناءً على رصد حقيقة الأفقية كنمط تفاعل للإنجاز داخل المجموعات والهياكل والمؤسسات والبيئات الاجتماعية، فإنه حتى العلاقات الدولية ستجد نفسها مع الوقت وتراكم النزاعات والدروس تنحو مضطرة نحو الأفقية ولن يتقبل المستقبل البعيد أو ربما المتوسط علاقات تقوم على الهيمنة وعلاقات القوة كما هو شأن العلاقات على امتداد التاريخ الإنساني. فلا توجد دولة اليوم يمكن أن تستغني عن بقية العالم مما يؤكد الحاجة المتبادلة بين دول العالم الفقيرة والغنية والقوية والضعيفة والمتقدمة والمتخلفة والسائرة في طريق النمو.
إن تأكيد التحول من التصور العمودي للعلاقات والفعل والقرار إلى التصور الأفقي القائم على الحوار والتشاركية نقطة مهمة من شأنها أن تحسم مبدأ أساسياً في مقاربة الأشياء، وبناء البرامج، ووضع المشاريع، والاستراتيجيات.
وليس سهلاً مثل هذا الانتقال القيمي الثقافي العميق ويحتاج إلى وعي وجهود توعية لأنّها تمس مسألة في غاية الأهمية وهي العلاقات الاجتماعية التي لم يعد ممكناً خضوعها لقواعد التعامل العمودي سواء في الفضاء التربوي أو الأسري أو المهني، وغير ذلك من الفضاءات التي كانت محكومة بالعلاقات العموديّة.
ولا يخفى على الجميع اليوم وجود تردد وتشظٍّ بين الأفقية والعمودية، خصوصاً في المجتمعات التي لا تزال عالقة في منطقة ما بين التقليدي والحداثي.
أشياء كثيرة تحتاج إلى الحسم الواضح لتجنب إهدار الطاقة والزمن وعلى رأس هذه الأشياء: الانتقال بجرأة وشجاعة إلى زمن العلاقات الأفقية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عصر العلاقات الأفقية عصر العلاقات الأفقية



GMT 08:38 2025 الأحد ,09 شباط / فبراير

اختلاف الدرجة لا النوع

GMT 20:02 2025 الأحد ,19 كانون الثاني / يناير

عالم جديد حقًا!

GMT 06:19 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

جانب فخامة الرئيس

GMT 19:43 2025 السبت ,11 كانون الثاني / يناير

أصول النظام السياسى

GMT 19:56 2025 الثلاثاء ,07 كانون الثاني / يناير

عيد سعيد!

أحلام تتألق بإطلالة ملكية فاخرة باللون البنفسجي في حفلها بموسم جدة

جدة - المغرب اليوم

GMT 01:04 2017 الأحد ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

مشروب "كافي توبا" الحلال يحارب بطالة السنغال

GMT 17:36 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

التراس الرجاء البيضاوي تهاجم سعيد حسبان وتصفه بالخبيث

GMT 15:44 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

الفيلا صديقة البيئة المكان المناسب لقضاء العطلة

GMT 09:02 2015 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

مليون زهرة شتوية تزين شوارع عنيزة في المملكة السعودية

GMT 03:18 2017 الإثنين ,23 تشرين الأول / أكتوبر

عرض الفيلم المغربي "عمي" خلال مهرجان "مشاهد عربية" في واشنطن

GMT 06:35 2017 الجمعة ,27 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين "أرامكو" و"غانفور" لشراء فرضة "ماسفلاكت" للنفط

GMT 19:03 2024 الأربعاء ,31 كانون الثاني / يناير

الوداد ينجّح في رفع عقوبة المنع من الفيفا

GMT 21:37 2023 الأحد ,01 تشرين الأول / أكتوبر

النفط يرتفع بدعم من ارتفاع الطلب وشح الإمدادات بأميركا

GMT 20:54 2023 الخميس ,18 أيار / مايو

البيض يتوقع الفائز بدوري أبطال أوروبا
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib